مقولة يشيد بها الكبار قبل الصغار، المتعلمون منهم والأميون، بل تعد من أكثر العبارات والصفات الحميدة التي تنم عن خلق رفيع وتربية مستقيمة وأدب حسن.
ويمر كثير من الناس الكبار رجالا ونساء بظروف عصيبة قد تقودهم إلى ظلم الآخرين أو فهمهم على نحو خاطئ، على الأخص ممن يصغرونهم سنا، ثم يكتشفون بعد ذلك خطأهم، وأن من ظلموه أو أساؤوا الظن به لا علاقة له بالخطأ، ولم يرتكبه أصلا، لكن هذا الاكتشاف يأتي في الغالب بعد فوات الأوان، وبعد أن يكونوا قد فرضوا عقوبة على الصغير الذي ظنوه أخطأ، وهنا يقف بعض الكبار حائرين بين الاعتذار للصغير سواء أكان طفلهم أو لا، أو رفض ذلك الاعتذار والإصرار على الموقف.
صعوبة شديدة
يرفض كثيرون أن يقدموا اعتذارهم، على الأخص لمن يصغرهم سنا، سواء أكان هذا الصغير من الأبناء أو الإخوة أو الأقارب أو المعارف والأصدقاء والجيران، ويرون أن كبرياءهم لا يسمح لهم بذلك، ولا يمكنهم من نطق كلمة اعتذار.
ويرى آخرون أن مجرد كونهم كبارا يعفيهم مما يسمونه «حرج الاعتذار» ممن يصغرهم.
في المقابل، يعتقد آخرون أن الاعتذار عن الخطأ أو سوء الظن واجب على كل من اقترفه بغض النظر عن كونه كبيرا أو صغيرا، وبغض النظر عن كون المخطأ أم المظن به صغيرا أم كبيرا.
أخلاق الأقوياء
يرى الأخصائي النفسي فارس الفضل أن الاعتذار من خلق الواثقين بأنفسهم، وأنه يتحلى به الأشخاص الذين لديهم القدرة على مواجهة الآخرين بكل شجاعة وأدب.
وقال «الاعتذار ليس كلمة تقال وحسب، سواءً أكانت في الحديث وتبرير الخطأ أو كانت للبحث عن مخرج من مشكلة سببها سلوك خاطئ، إنما الاعتذار يعني الاقتناع التام بأن هناك خطأ ينبغي تصحيحه وعلى إثره وجب الاعتذار، ولذلك فإن اعتذار الكبار للصغار أو العكس، يعد مروءة ومبدأ أخلاقيا إنسانيا يدل على العدل الرباني أولاً وأخيراً، ثم العدل الإنساني المستمد من الفكر العقلاني. ومن هنا فإن الاعتذار عدل وإنصاف مهما كان نوعه أو حجمه أو أثره».
حيل دفاعية
يميز الفضل بين الاعتذار والتبرير، ويعد هذا الأخير من الحيل الدفاعية، ويقول «هناك حيل دفاعية تكلم عنها باستفاضة سيجموند فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي، ومنها التبرير، وهذه حيلة دفاعية لا علاقة لها بالاعتذار، إنما يتم اللجوء إليها عندما يواجه الفرد موقفاً لا يستطيع أن يتصرف فيه تصرفاً مقبولاً، أو لا يستطيع أن يذكر الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى هذا السلوك، فيذكر أسباباً زائفة يفسر بها الواقع، ولذلك فإن التبرير غالباً ما يأتي نتيجة لصراع بين ما يريده الفرد فعلاً وبين ما يمكنه أن يحققه أو أن يصل إليه، وهنا نجد أن المبالغة الشديدة وتعظيم الذات قد توصل الفرد إلى درجة عدم الاعتراف بالخطأ ظناً منه أنه باعترافه بخطئه يهين ذاته، وينتقص من مكانتها، ولذلك يلجأ إلى الحيل الدفاعية في محاولة منه لتجنب انتقاص وإهانة الذات، وهذا مفهوم خاطئ وغير صحيح، لأن ارتكاب الأخطاء أمر وارد بطبيعة الحال، والاعتراف بالخطأ ومحاولة تصحيحه يكسب صاحبه احترام الآخرين ويجعلهم يساندونه ويتعاونون معه».
ويورد الفضل أمثلة على ذلك، ويقول: عندما يربي الأب ابنه على أن يعتذر عندما يخطئ، فهذا يعني أنه من باب أولى أن يطبق الأب الاعتذار عندما يخطئ هو، فالتعليم هنا تعليم تطبيقي وليس نظريا.
التعليم التطبيقي يثبت أكثر من النظري، وهنا ما يسمى التعلم بالنموذج لأن الأب أصبح نموذجا حسنا، وكما ذكرنا في البداية فالاعتذار علامة من علامات الثقة بالنفس، والثقة بالنفس علامة من علامات التواضع، والتواضع صفة من الصفات المحمودة تدعو إلى المحبة والمساوة بين الناس وتنشر الترابط بينهم.
تصرف القدوة
يعتقد الدكتور صيدلي متعب عبدالله الكستبان أن مجتمعاتنا تعارفت دوما على أن الاعتذار دائما ما يبادر به الصغير، سواء أكان له الحق في الاعتذار أو كان عليه، وهذه من الصفات الجميلة التي نتميز بها.
ولكنه يردف«لكن حينما نجد أن كبيرا يبادر بالاعتذار إذا بدر منه خطأ أو تقصير، فهذا مما يزيده في نظر من هم أصغر منه هيبة واحتراما وتقديرا، وهذا الفعل الكريم لا يدل إلا على أن هذا الكبير كبير في كل شيء، تفكيره وحكمته وأخلاقه ورجاحة عقله وكل صفاته، وهذا يؤكد أنه ينزل الأشياء منازلها، ويدرك ما له وما عليه، فالكبير عليه مسؤوليات كبيرة، أهمها أن يكون قدوة لمن هم أصغر منه، فهو لا يرى أن الاعتذار منقصة منه أو تقليلا من قدره، بل يعد الاعتذار من شيم الرجال الكبار الكرام».
وختم الكستبان متذكرا قول المتنبي:
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
اعتذار بحدود
يبين حسين بن مهدي آل عقيل من إدارة التوجيه والإرشاد الطلابي في تعليم نجران أن اعتذار الكبير للصغير لا بد أن يكون في إطار حدود بعينها، ويقول «يقال في الأمثال والحكم إن الاعتذار من شيم الكرام»، ومن وجهة نظري فإن اعتذار الكبير للصغير يكون في حدود بحيث لا يصل إلى أن يفقد الشخص الكبير كرامته في بعض المواقف، خاصة في حال محاولة الصغير استغلال الموقف سواءٌ بالرفض المتكرر أو بطلب مقابل مادي مثلاً نظير قبوله للاعتذار، كذلك يجب على الصغير قبل أن نصل لمثل ذلك أن يحترم الكبير ويرى في كل تصرفاته أو عثراته الأب والأخ حتى لو لم يكن يعرفه ولا تربطه به علاقة من قبل، فالدين الإسلامي حث على الاحترام فقال «ليس منا من لم يرحمْ صغيرَنا، ويُوَقِّرْ كبيرَنا». والنبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا في ذلك في تقديره للكبار وإجلاله لهم وإكرامه لهم، وبالتالي لو طبقنا تلك القواعد من الالتزام بمبادئ الدين الحنيف وبقدوتنا صلى الله عليه وسلم فسوف نكون قد خطونا خطوات نحو الاحترام والتقدير وإجلال الكبير، كما أن الكبير يجب أن يراعي فارق السن في التعامل مع الصغير، وأن يرى في بعض تصرفاته جانب الطيش الذي يرتبط بالمراحل العمرية في ذلك السن.
تعزيز المصداقية
يجزم آل عقيل بأن «الاعتذار لا يقلل أبداً من قيمة الكبير ولا الصغير، وقد يعيد المياه إلى مجاريها، فالاعتذار خلق اجتماعي جميل يدعو للتعايش، ويمحو ما قد يشوب المعاملات الإنسانية من توتر أو تشاحن نتيجة الاحتكاك المتبادل بين الناس.
والاعتذار للصغير، من وجهة نظري، ينفي عن صاحبه صفة التعالي والكبر ويمنحه المصداقية أمام الناس وخاصة أهل مجلس الصلح، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد ويقضي على التباغض ويدفع عن صاحبه القيل والقال وتحميل الخطأ فوق ما يحتمل مما قد يغير مسار الخطأ ويصل به إلى منحنى خطير، خاصة وأننا نتعامل مع صغير في السن قد يكون تصرفه في ظل عدم الإسراع بالاعتذار والصلح كارثيا لا سمح الله، والأمثلة عديدة خاصة وأنه يدخل فيها سوء الظن والارتياب في التصرفات».
سمات الأقوياء
لا يرى مستشار التنمية البشرية بدر فهد الفقير عيبا في الاعتراف بالخطأ، سواء بدر من الصغير أو الكبير، ويقول «ليس هناك مخلوق معصوم من الخطأ، وليس منا من لا يصدر منه الخطأ الذي يبقى واردا من الصغير والكبير، إلا أن الأخطاء تتفاوت فيما بينها، وخطأ الكبير ليس كخطأ الصغير، وليس من العيب الاعتراف بالخطأ، فمن سمات الأقوياء البعد عن تبرير أخطائهم والمسارعة إلى الاعتذار عنها، وعدم المجادلة بالباطل في الأمور التي ظهر فيها الخطأ، والاعتراف به أطيب للقلب وأدعى للعفو، والاعتذار عنه لن يُنقص من قدر الكبير شيئا بل على العكس تماماً، سيُعلي من قدره عند الآخرين، لأنه سيكون مصدراً لزيادة الثقة بينه وبين من أخطأ في حقهم من الصغار».
ويعتقد الفقير أن عدم الاعتراف بالخطأ يعود إلى ضعف الشخصية، ومحاولة التملص من تحمل المسؤولية، أو محاولة تحسين الصورة والظهور بالمظهر اللائق أمام الآخرين.
إرث للأجيال
يوضح رئيس جمعية حماية المستهلك في نجران ناصر بن عبدالله آل عنكيص أن اعتذار الكبير لا يسقط أبدا من هيبته بل يكون إرثا له يتبعه الآخرون بعده، ويذكرونه من بعده بالثناء، لأن الاعتذار عن الخطأ يدل على مكانة ورفعة وخلق الشخص المعتذر كبر أو صغر، ويدل على نقاء سريرته وطهر قلبه.