بحكم موجة الاتهام بالفساد السائدة هذه الأيام، يكاد لا يخلو مجلس أجلسه من الهمز واللمز بأسعار بعض المشاريع المقامة في المملكة بشكل لا يخلو من المبالغة في التجاوز بالوصف السلبي لأشخاص المسؤولين، لدرجة تصل أحيانا لمستوى الخيال العلمي. وفي الوقت الذي أتفق فيه مع واقع أن المشاريع في المملكة ذات تكلفة أعلى في بعض الأحيان منها في غيرها، إلا أنني لا أتفق مع إطلاق الأمر على عواهنه بشأن الفساد، إذ إن هنالك أسبابا أخرى لارتفاع التكلفة.
مما قد يخفى على الكثير أن "تقييم المخاطر" هو من أهم عناصر التسعير للمشاريع عموما، وتقييم المخاطر يشمل عددا من العناصر بما فيها مخاطر التمويل ومدد السداد والنظام القانوني وآليات التقاضي وآليات تحصيل الديون ومدد النظر في القضايا ومنظومة القوانين التي يتم تنفيذ المشروع في ظلها وقوة الائتمان التجاري. وعنصر المخاطر المتعلقة بتوقيت السداد هو من أكثر العناصر تأثيرا على التسعير لما له من أبعاد غير منظورة. فكثير من الشركات الدولية تقوم بالتأمين على التأخر في السداد، وعندما يكون معدل التأخر مرتفعا فإن قيمة التأمين تكون مرتفعة أيضا، وبالتالي تؤثر على قيمة المشروع. أيضا فإن التأخير في السداد يستتبع قيام الشركات بعمليات المتابعة والتحصيل وقد يصل الموضوع لحد التقاضي وتكاليفه المرتفعة.
وبغض النظر عن مصداقية هذا التقدم السريع للمملكة في قائمة البيئات الأفضل للاستثمار الأجنبي التي تعلنها الهيئة العامة للاستثمار في كل عام، فإن الشركات والبنوك الدولية تتعامل مع منظومة المخاطر عند الاستثمار في المملكة بمستوى عال من الحذر، وذلك لعدد من الأسباب من أهمها طول أمد السداد، والدورة النقدية، حيث إن معدل الدورة النقدية للسداد في مشاريع المملكة بما فيها مشاريع القطاع الخاص يتراوح بين المئة وعشرين يوما والمئة وثمانين يوما، وهو معدل عال جدا، وذلك فضلا عن أن هذا التأخير في السداد له أيضا تكاليف تابعة تشبه تأثير الدومينو على المشاريع.
وفي الوقت الذي نجد فيه أن العقود الدولية في كثير من الأحيان تضع جزاءات وغرامات على التأخير في السداد من قبل صاحب المشروع في حال تأخره في السداد، فإن القضاء أحيانا يعتبر هذه الغرامة من باب ربا النسيئة وبالتالي لا يقبل إنفاذها حال وصول القضية لأروقة القضاء. وجهة النظر هذه تلتقي مع فتوى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بالدوحة قبل أحد عشر عاما وإن كانت تلك الفتوى محددة في عقود البيع بالتقسيط وعقود الاستصناع، كما أن الفتوى تحث المختصين على النظر في البدائل وتقديمها لمجمع الفقه الإسلامي لدراستها والنظر فيها.
قبل المناقشة أود أن أكرر أنني لا أتعامل بالربا ولا أحث عليه، وأن طرحي محدد في الغرامة على التأخير، وقد لزم التنبيه حتى لا يؤخذ كلامي على غير محمله، كما أنني من المعارضين لفكرة الزيادة في مقابل الزمن على إطلاقها لما تستتبعه من إشكاليات وتحويل للنقد من أداة للتبادل إلى سلعة تكون هي محلا للتبادل التجاري، لكن لا بد أن نقر أن مفهوم النقود قد تبدل منذ انهيار اتفاقية بريتون وودز في عام 1971 وتعويم سعر صرف الدولار حيث لم يعد مرتبطا بالغطاء الذهبي وإنما بالقوة الشرائية للعملة، وهو ما أثر على باقي دول العالم تباعا وألقى بظلاله على أسواق المال ومفهوم وآليات التعامل معه وتكوين سلة العملات ووحدة السحب الخاصة باعتبارها أداة متحركة للتقييم.
وبموجب هذا التغير في مفهوم النقود أصبح مقياس القدرة الشرائية للمنتجات من أهم العوامل التي يتم تقييم العملة بموجبها، فمثلا عشرة آلاف دولار في ما قبل انهيار الغطاء المعدني للعملة قد تعادل مئة وعشرين ألف دولار بقياس اليوم من حيث القيمة الشرائية، ولنكون أقرب لواقعنا وبالنظر للتضخم المفجع في أقيام العقار مثلا وبعض السلع الاستهلاكية فإن قيمة الريال تختلف في هذا العام من حيث القوة الشرائية عما كانت عليه في العام السابق، وبالتالي فإنني عندما أتفق معك على أن أقوم لك بمشروع معين على أن تسددني في وقت معين فإن تأخرك في السداد يعني أنني سأتضرر أو سأستلم قيمة أقل لذات الخدمة أو المشروع حتى وإن كان المبلغ هو ذاته المبلغ المتفق عليه.
إن مخاطر التأخير في السداد ترفع أقيام بعض المشاريع أحيانا بنسبة 30% إلى 40% عن ذات المشاريع عند إقامتها في دول أخرى تنظم عملية التأخر في السداد وآلياته وتقلل من معدل هذه المخاطر بمنظومة متكاملة بما فيها فرض غرامة التأخير على السداد التي ليست ـ في تقديري الشخصي ـ ربا وإنما تعويض عن ضرر حال.
ولهذا فإنني أقترح أن تتم إعادة النظر في موضوع الغرامة أو التعويض عن الأضرار الناتجة عن التأخر في السداد من قبل صاحب المشروع للمنفذ لما يستتبعه ذلك من أضرار واقعة قابلة للتقييم، ولعدم ارتباط ذلك بالزيادة في الثمن مقابل الزمن مباشرة.
تغريدة: في رأيي الشخصي أن الغرامة على تأخر السداد ليست ربا، ولا يمكن أن تنطبق عليها أحكام الربا فهي ليست (نسيئة) وإنما تعويض مقدر لضرر متوقع.