يحقُّ لي القول إننا أمة بذاكرة قصيرة ولا سيما كلّما ارتفع مزاد الحياة، يغدو الموت من أرخص السلع التي توزّع بشكل مجاني، وكأنَّ ما قاله الشاعر عبدالوهاب عن الدنيا يتطابقُ اليوم مع الواقع: يا لها من بنت كلبة

هذه الدنيا التي تشبعنا موتاً وغربةً.

نعم صدق ما قاله الراحل!! وربما الأقسى أن تشغلنا الدنيا، رموز شعريّة عاشت سنوات طويلة تشحن القصيدة العربية باللغة الشعرية، والموقف، والأسئلة، لست بهذه السطور القصيرة يمكن أن اختزلَ تجربة كبيرة كتجربة الشاعر عبدالوهاب البياتي، والذي مرّت ذكرى رحيله قبل أسبوع، 6 آب عام 1999، في دمشق، تلك المدينة الوديعة التي قرر أن يقيم فيها بشكل نهائي، فيقول الناقد د. علي حداد بإحدى مقالاته عن الراحل، المنشورة بصحيفة الصباح العراقية العدد 5465: «كان آخر لقاء لي بالبياتي في عمان قبل سنة من رحيله إلى دمشق ووفاته فيها، وقد أخبرني يومها أنه يودّ الإقامة نهائياً هناك، وقبل ذلك فهو كثيراً ما أباح لي بوصيته أن يدفنَ حين يموت إلى جوار محي الدين بن عربي في مقبرته بدمشق». ربما لأن الشاعر في أواخر سنواته طافت على روحه صوفية ابن عربي وحافظ الشيرازري، وفلسفة المعري. لكنّه لم يفز بحظوة الدفن بجوار بن عربي، ولا أغفل عن ذكر دمشق التي كانت ملاذاً للعديد من الشعراء، ومنهم محمد مهدي الجواهري الذي مات فيها بيوم 27 تموز عام 1997 قبله بعامين، وقد أحيت الأوساط الثقافية مهرجانات عديدة لنهر العراق الثالث كما لقبوه، بذكرى رحيله قبل شهرٍ، بالمقابل تهب رياح الصمت على أحد أصحاب ريادة التجديد في الشعر العربي. وما يمكن إثارته من تساؤلات إن البياتي كان له حظ من النقد، والدراسات الكثيرة، ولعل الأهم بعض النقاد رسّخوا أمر ريّادة الحداثة الشعرية له، ككتاب (البياتي رائد الشعر الحر) لنهاد التكرلي، وكذلك كتاب (عبدالوهاب والشعر العربي العراقي) إحسان عباس، ولا أنسى كتاب الناقد الراحل طراد الكبيسي بعنوان (التراث العربي كمصدر في نظرية المعرفة والإبداع في الشعر العربي) وقال عنه: «إن تجربته مع ثرات الحضارات القديمة غنية ومشبعة وهو لا يكثر من الاقتباس والتضمين ولكنه يستوحي جوهر الأسطورة وروحها فيبعثها حيّة من جديد». ويعدّ البياتي رائداً في توظيف الأسطورة، ولا نغفل عن قصيدة القناع التي ابتكرها ونظّر لها في كتابه (تجربتي الشعرية) الصادر عن دار العودة، وقد فتح باباً جديداً للشعراء من جيله أن يتقنّعوا وراء شخصيات أسطورية، وتراثية، وتاريخية، ومنهم الشاعر المصري أمل دنقل الذي استعمل قصيدة القناع، وكانت مناورة مع الرقيب وقد أفردت له مبحثاً مستقلاً بكتابي الذي درست فيه الشاعر دنقل بعنوان (الذات والمجتمع دراسة في الأنساق الثقافية)، وقد لاحظت أثر قصيدة قناع البياتي على شعره. ونعود إلى تساؤلاتي: لماذا بعد الاحتفاء الثقافي الكبير بشعره في حياته كان كثيراً وعند موت تمّ تناسيه لا نسيانه؟ أليس هو من تُرجمت قصائده إلى أكثر من لغة؟ وهو الذي كان في كلّ المهرجانات الشعرية والمؤتمرات يُفرش له البساط الأحمر؟ ويمكن القول: إن البياتي في زمانه كان مالئاً للدنيا وشاغلا الناس فلماذا منذ رحيله انطفأت الأنوار التي كانت تتبع شعره؟ وكأن عتمة القبر قد طالت شعره الحيّ بعد صعود الروح، وفناء الجسد. أين الذين كتبوا عنه، ونشروا حوارات معه بصحفٍ كثيرة؟ أين أصحاب المدائح الشعرية لشعره اليوم؟ أين أصدقاؤه الشعراء؟ ولماذا ديوانه الأخير بعنوان (نصوص شرقية) الصادر عن دار المدى عام 1999 بعد وفاته بشهور لم يلقَ أي صدى نقدي؟ بل أذكر وقتها عندما اقتنيتُ الديوان من مكتبة المدى ببغداد وآخر ما تبقى من نسخ الديوان أهديت منها لبعض الشعراء، ومنهم من قال باستغراب: هل حقاً صدر له ديوان بعد موت؟ إن قصائد هذا الديوان لم تكن إلا صدى لروح متأهبة للموت، وكأنه ودع روحه في بغداد فيقول:


رجلٌ يمسك قلبه

ويتكئ على عمود النار

في شارع مظلم

مرّت به امرأة وسألته

أين رأيتك قبل عشرين عاماً

لم يجب

وعندما اختفت

قال لنفسه: يظهر أنني مت منذ زمن بعيد.

يبقى عبدالوهاب البياتي الشاعر المجدد بضمون وشكل القصيدة العربية الحديثة، وأحد أنهر الشعر العربي الذي لم يتوقف جريانه حتى وإن تمّ تناسيه.

* ناقدة عراقية