أصدرت الحكومة بيانًا ملكياً بتعليم البنات في عموم مناطق المملكة، أذاعته المديرية العامة للإذاعة ونشر في صحيفة أم القرى، واحتوى البيان على لهجة كانت حريصة على طمأنة الأهالي بأن تعليم البنات سيكون وفقًا للإسلام، وبعيداً عما كان يسمعه البعض عن أنظمة التعليم في البلدان العربية المجاورة، إلا أن ردود فعل معارضة من قبل الأهالي لفتح مدارس البنات كانت قويةً، سيروا وفدا إلى الرياض لمقابلة الملك سعود والمطالبة بإلغاء البيان ورفضه، إلا أن الدولة قررت أن (فتح المدارس للفتيات هو أمر من جلالة الملك سعود، والذي لا يرغب في إلحاق بناته بالمدرسة فله الحرية بذلك). استمرت هذه المعارضة بعدة أشكال، وترسخت ضد كل ما يتعلق بالمرأة بعد ذلك لعدة عقود منذ تلك المعارضة الأولى عند بدء هيجان التفاعل الديني الموتور مع النص الديني المجتزأ، وذلك أن التعامل مع النصوص الشرعية ظل لعدة عقود تحكمه عقلية أُحادية الفكر والمنزع، ونبذ كل مدارك الفقهاء في معقولية المعاني والمقاصد التي رام الشارع تحقيقها من طلب التكليف لمن هو مقصود بتلك النصوص، ومن لم يُعاصر تلك الفترة يظن أننا نتحدث عن طلاسم أو قصص خيالية، بل كنا نُعاصر من يُحرم وجود الخادمة في البيت وجلبها من خارج المملكة، ويضفي حرجاً على كثير من العائلات السعودية التي كانت بحاجة لوجود الخادمة، وذلك استدلالا بعموميات النصوص وإنزال قاعدة سد الذارئع التي أغلقت كثيراً من المباحات على مجتمعنا، والأخذ بنظرية الاحتياط من الوقوع في المحرمات، حتى كادت الأشياء تنقلب عن أصل حلها إلى محرمة بعينها، وذلك أن منبع السقوط في البعد عن مقاصد الشريعة الأسمى، هو التمسك بشيء فضفاض لا يمكن تنزيله على واقع معاش، وإيقاع الحرج على الناس من أجل رؤية فقهية ضيقة لا معنى لها وليس لها أي وزن شرعي تملكه عند تحقيق النظر الفقهي والأصولي و المقاصدي، بل إن من المسائل التي قد عطلت مجتمعنا كثيراً هي مسألة عمل المرأة ومدى اختلاطها مع الرجال، فقد كانت أم المسائل ولب قضية التيارات الموتورة، ونتج عن تأصيل تلك المسألة بتحريم عملها وعدم جواز اختلاط المرأة مع الرجل في أماكن العمل، بأن تعطل النصف الآخر من المجتمع، بل إن كل عائلة من عوائل المجتمع كان نصفها معطلاً بسب أن المرأة لم تكن تعمل في كثير من المجالات بسبب القول بتحريم عملها، علماً بأن القول بتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء قول مجانب للصواب ولما كان عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه باباً أطلق عليه (باب مداواة النساء الجرحى في الغزو)، أورد فيه حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى، ونردّ القتلى إلى المدينة، وفي رواية: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: نسقي القوم، ونخدمهم، ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة، فالحديث يدل دلالة صريحة لا مراء فيها بأن مشاركة النساء في خارج نطاق بيتها بالخدمة والعلاج جائزة بل مستحبة إن لم تكن واجبة إذا احتاجها المجتمع. قال الكرماني -رحمه الله- في فوائد هذا الحديث (وفيه خروج النساء في الغزو، والانتفاع بهن بالسقي ونحوه، وإن كان المداواة لغير المحارم لا تمس البشرة إلا عند الحاجة)، فهذا الحديث وأقوال الفقهاء وشراح الأحاديث يُقررون جواز عمل المرأة في أعظم وأخطر مجال وهو المجال الحربي والظهور والانكشاف للعدو الخارجي، ومع ذلك كان المتقرر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جواز عملها وخروجها في المجتمع ومساهمتها في مجالات عمل المجتمع دون حرج أو خوف، أو التعنت بالقول بمبدأ سد الذرائع المحرمة. وههنا وقفتا تأمل أولاهما أنه حريٌ بالباحثين ومراكز الدراسات بحث كيفية تسلل أقوال التحريم المتشددة إلى الفكر المجتمعي، ولِمَ كانت الأقوال ذات المسحة التيسيرية التي ترفع الحرج عن المجتمع تختفي؟، والوقفة الثانية هي أن التيار المتشدد لا يزال قابعاً فكرياً لدينا في المجتمع ومن أغفل هذه الحقيقة سوف يُصدم أو يتفاجأ بما سوف يراه يوماً ما.