لا يغيب عن القارئ أن بوفوار عاشت مع عشيقها الوجودي (سارتر) حياة زوجية لم تباركها الكنيسة، ولم يسجل أنه زواج مدني. اتفقا أن يعيشا معًا كزوجين، فعاشا دون أن يسمحا لأية هيئة بالتدخل بشؤونهما، وكانت حياتهما أشبه بقطار متنقل بين المحطات، ولا محطة تحتضنهما بشكل مستقر. فسكنا الفنادق، والمقاهي، والشقق المؤثثة المؤقتة، ولا بيت يأوي جذوة عشقهما.
سجلت سيمون تلك الأحداث بصور ملّونة في كتابها (زهرة العمر) الذي صدر عام 1962، تناولت فيه المرحلة من 1929 ــــــــ 1944 من حياتهما، وكان لهذا الكتاب تتمة بعنوان (مذكرات فتاة رصينة) الذي ترجمته دار العلم للملايين، وقد عادت فيه إلى الطفولة، والمراهقة وكرهها للزواج والأمومة وحبّها الأول لجاك ابن عمتها، ودخولها إلى عالم الفسلفة وما الروايات التي أثرت في تكوينها الفكري.
وكتاب زهرة العمر قد ترجمته دار المدى بعنوان (قوّة العمر) فنجدها صريحة إلى حدّ الدهشة ومن ضمن هذه الصراحة ما ذكرته عن الفتاة التي أحبّت سارتر، وهذه البنت كانت إحدى طالباتها وجاءت لتقضي أيامًا في شقتهما، وما كان لهذه الشابة إلا أن تقع في أحضان الحب، وتغامر مع المغامر الوجودي سارتر وهذا الأخير لم يمتنع عنها وكأنّه يتبع الصوت القائل: (إذا أشارت المحبّة إليكم فاتبعوها).
تذكر بوفوار أنها تألمت بشكل كبير، وحاولت التخلّص من الألم، ومن الفتاة فما كان الخلاص إلا عبر القتل المجازي!
والمجاز هو الأداة الطيعة لهذه المهمة، لا أنوي زيادة الغموض على القارئ أكثر، وما أريد قوله إن سيمون استطاعت التخلص من الألم، من غريمتها الشابة عبر الكتابة فقد ذكرت في مذكراتها أنها كتبت رواية بعنوان (المدعوة) التي ترجمها دانيال صالح وصدرت عن المجمع الثقافي عام 1999.
الرواية تدور حول قصة زوجين تدخل في حياتهما فتاة تفسد على الزوجة زوجها، وتسلب الاستقرار من حياتهما و(فرانسواز) هي الشخصية البطلة والزوجة المجروحة وهي كاتبة بالوقت نفسه، فتقتل هذه الفتاة في الرواية وتتخلص منها.
رواية المدعوة تتكون من 600 صفحة وقد بنتها على الحوارات المكثفة بين الشخصيات. إن ما ذكرناه في السطور يجعلنا نرصد مسائل مهمة منها: إنّ سيمون قد داوت جراحها بالكتابة، وعدد الصفحات الكبير وطول مساحة السرد والمنولوج الداخلي للشخصية البطلة، والوقت الذي أمضته مع الكتابة كان طبابةً لذاتها المتألمة، وهذا يجعلنا نكشف عن الوجه الثاني؛ لما يفعله الأدب في حياتنا.
ومن الجانب الثاني أن كل عمل أدبي يبدأ من شرارة واقعية، ويأتي الخيال ويعلي بنيان تلك الشرارة الأولى، ومن هذه الحادثة كتبت سيمون روايتها (المدعوة).
هي لم تقتل الفتاة في الواقع، لكنّ قتلتها في المجاز، وفوق الأوراق وتحررت من سجون الألم فتقول في المذكرات: «لقد تخلّصتُ بكتابة هذه الرواية من أي إحساس بالكراهية نحو الفتاة. ولما ملّ سارتر تركها».
تلفت نظرنا سيمون إلى أن للكراهية حلا، وهو أن يكتب الإنسان ويرمم الأجزاء المبتورة بروحه، ويطرد سموم حقده منها، ولا سيما إن كانت الكتابة بوعي عالٍ.
كان ولا يزال الأدب يعالج كل قضايا الإنسان ووجوده وأزماته وهذه مهمته الأساسية.
* ناقدة عراقية.