كثيراً ما يعاتبني الصديق العزيز الدكتور علي بن موسى، الأمين العام للمجلس الدولي للغة العربية، على عدم توثيق وكتابة كثير من الأحداث المهمة، التي حدثت وتحدث في منطقة عسير، ذاك أني على مقربة من دوائر العصف الذهني والتفكير واتخاذ القرار، وتشرفي بالمشاركة المباشرة وغير المباشرة وقيادة بعض المبادرات، وعضوية البعض الآخر بتكليف من أمير المنطقة ورئيس هيئة تطويرها الأمير تركي بن طلال.

ولعلي من خلال هذا المقال الذي سأوثق فيه ما اطلعت عليه شخصياً عن مشروع وادي أبها، أن أبدأ سلسلة مقالات عن موضوعات مختلفة كنت شاهداً عليها، أعتقد أنها تستحق الحفظ والنشر.

كانت الساعة الثامنة من مساء الأربعاء الثامن والعشرين من فبراير لعام 2018، عندما كان نائب أمير عسير آنذاك والمعين قبل أربعة أيام فقط، يتساءل عن منطقة مظلمة مساءً تخترق وسط المدينة الحالمة من الغرب إلى الشرق دون إضاءات أو معالم توضح ما هي هذه البقعة الغريبة، وكانت الإجابة: إنه وادي أبها! والذي يقول عنه المؤرخون إنه أقدم من المدينة وإن أبها عاصمة الإقليم قد سميت عليه.


لم يكتم الأمير دهشته لوجود «أصل» بهذه الأهمية قد أصابه الإهمال والتشوه، بدءًا بالجسم الخرساني الضخم الذي جثا على صدر الوادي المسكين، وانتهاءً بالتعدي على حدوده ورمي المخلفات فيه وتركه دون صيانة، ولعل الجزء المضيء الوحيد على امتداد هذا المعلم الطبيعي، هو بعض المزارع والقصور والمباني التاريخية والتراثية في كل من البسطة والنُصب ومشيع، والتي توحي لذوي الألباب والهمم العالية ومن لديهم استشراف للمستقبل، أن هذا المكان يمكن أن يكون أحد أهم المناطق جمالاً وجاذبية، ليس على مستوى بلدنا العظيم ولكن على مستوى إقليمي وعالمي.

ولا شك أن حديث خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، عندما قال «هدفي الأول أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على كافة الأصعدة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك» وما أشار إليه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي قال «دائماً ما تبدأ قصص النجاح برؤية، وأنجح الرؤى هي تلك التي تبنى على مكامن القوة» لا شك أنها كانت حاضرة في ذهن نائب أمير عسير، عندما بدأ يرسم معالم مشروع عالمي في مخيلته.

في اليوم التالي كُلفت من سموه بدعوة عدد من «أهالي أبها»، وخاصة كبار السن للاجتماع بهم، وسماع قصص وحكايات علاقتهم الودودة بمدينتهم الحالمة وبواديها الشهير، استمر اللقاء لساعات كان الأمير خلالها مرخياً سمعه لكل ما تحدث به الحاضرون، متوقفاً عند الكثير من القصص في محاولة لفهم أعمق، لماهية دور هذا الوادي في حياة الناس، ذلك اللقاء على ما يبدو أكد صحة حدسه ولكنه مازال بحاجة لمعلومات أكثر، لذا تم تكليفي بدعوة عدد من الأدباء، ثم عدد من التاريخيين، ثم عدد من سكان الأحياء التي ما زالت تشرف على الوادي، في لقاءات مستقلة وبنفس آلية اللقاء الأول، وأخيراً لقاء غير متوقع مع المعارضين للمشاريع السابقة، التي كانت تستهدف وسط أبها لسماع وجهة نظرهم، ولإشراكهم مع غيرهم من أبناء المنطقة في صناعة القرار، وخلال أقل من شهر كانت جميع اللقاءات قد تمت.

في رحلة جوية من أبها إلى الرياض وجدت أحد مرافقي الأمير، قد أفرغ حقيبتين من عدد كبير من الكتب ثم وضعها على الطاولة، ولاحظت أن جميعها مؤلفات عن منطقة عسير، ولعلي لا أبالغ إن قلت إنها كل أو معظم ما كتب عن منطقة عسير وعن أبها، بل وعدد من المقالات المنشورة في مجلات وصحف سعودية، لم أكن بحاجة لرؤية التعليقات الجانبية على كثير من صفحات الكتب والأوراق الصفراء الصغيرة، التي تشير إلى موضوعات محددة داخل تلك الكتب، لأتأكد من أنه قد قرأها كلها.

ناولني الأمير صورة مقال مكتوب بصيغة أدبية جميلة، كتبه منذ سنوات طويلة الدكتور إسحاق السعدي الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، والذي عاش طفولته وصباه في الفاتنة أبها، وطلب مني دعوته للسماع مباشرة منه، وقد حدث، بل لقد أصبح إسحاق السعدي مشاركاً في العديد من ورش العمل، ومصدراً مهماً للمعلومات مع العشرات من أصحاب الفكر والرأي والمشورة من أهل المنطقة. كما تم تكليف الجغرافي الدكتور فايز عسيري من جامعة الملك خالد، بعمل دراسة ميدانية لوادي أبها وأسماء الأحياء والسبل الموصلة لها والمساجد والآبار وغيرها، بهدف الاستفادة من المسميات التاريخية في قادم الأيام.

خلال مرحلة التفكير والتي أعتقد أن الفريق الذي بدأ يتشكل، ويناقش معالم المشروع القادم كان يعيشها، برز موضوعان لهما علاقة، الأول هو قرية المفتاحة التشكيلية، والثاني هو المجمع الحكومي القديم والواقع أمام مبنى إمارة منطقة عسير مباشرة.

فكرة إنشاء المفتاحة التي بدأت من سمو مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة عسير الأسبق الأمير خالد الفيصل، فكرة رائدة وغير مسبوقة وقد بنيت على نفقة عدد من رجال الأعمال من أبناء المملكة العربية السعودية، ما زالت أسماؤهم محفورة في ذاكرة المكان، وقد بقيت القرية لسنوات طويلة مصدر إشعاع للفنون المختلفة، وساهمت في تسويق أبها كمدينة إبداع وإلهام، ثم إنه أصابها ما يصيب المؤسسات التي لا تعود إدارتها لجهة محددة، فأفل نجمها وتوارت بالحجاب وأصبح الزائر للمفتاحة يغني على الأطلال، لذا فقد تم الرفع إلى صاحب الصلاحية بطلب تسليم هذه القرية إلى حاضنتها الطبيعية وزارة الثقافة، كي تعيد لها الوهج وتبث فيها الحياة من جديد، ولتكون جزءًا أساساً من المشروع القادم الذي لم يعلن عنه بعد. التحدي الآخر هو المجمع الحكومي القديم والذي بني في التسعينيات الهجرية، ولم يعد مناسباً بقاؤه في ذات المكان، ورغم وجود محاولات متعددة منذ سنوات للحصول على موافقة على إزالته إلا أن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح، شكلت لجنة مصغرة تشرفت برئاستها وعضوية كل من أمين المنطقة المكلف حينذاك قبل وصول الأمين الحالي، ثم عضوية سعادة أمين المنطقة بعد وصوله، والأستاذ حسن الشهري عضو مجلس المنطقة، كان الهدف الوحيد للجنة مقابلة وزارة المالية وهيئة عقارات الدولة، لإقناعهما من خلال لقاءات مباشرة وليس من خلال الخطابات، بأهمية إزالة هذا المشروع القديم والاستفادة من موقعه كمكون أساسي في المشروع المنتظر، لم تكن المهمة سهلة ولكنها تمت بحمد الله، وصدر الأمر السامي الكريم بالموافقة على إزالة المنشآت الحكومية القديمة، وتخصيص المساحة لأمانة عسير على أن تكون جزءا من مشروع تطويري قادم.

في السادس عشر من يوليو من عام 2018، وصل وفد من التنفيذيين بصندوق الاستثمارات العامة لزيارة المنطقة، والاطلاع على الفرص الاستثمارية وعوامل الجذب السياحي برئاسة الأستاذ نايف الحمدان، وبحسب تقرير قناة الإخبارية فقد صحب الوفد سمو نائب أمير المنطقة لعدة مواقع تاريخية وسياحية، أعددت وزميلي العزيز الدكتور عيسى عسيري عرضاً مرئياً عن المنطقة، وعن الميزات النسبية المتوفرة فيها، وطلب منا الأمير تقديم العرض للضيوف في مرسم الفنان إبراهيم الألمعي في قلب قرية المفتاحة، الحقيقة أن اختيار المكان والخروج عن نمطية اللقاءات الرتيبة، والوقوف على بعد خطوات من وادي أبها وسوق الثلاثاء، زاد من حماس الضيوف وبدت علامات الرضا والفرح بوجود ضالتهم.

الشركات العالمية والمحلية التي كلفت بعمل الدراسات الميدانية لمنطقة المشروع، اكتشفت أن التعامل مع المسئول الأول في المنطقة ليس سهلاً، وأن القضية ليست إستراتيجيات وأفكار يتم إنزالها بالبراشوت حتى لو تم تأكيد نجاحها في مناطق أخرى. لقد سار الخبراء والمهندسون مشياً على الأقدام من القصر التاريخي المسمى قلعة المصري، إلى سد وادي أبها في رحلة استمرت عدة ساعات، اكتشفوا من خلالها أن من مشى ليس كمن نقل، وأن رئيس هيئة التطوير كان محقاً في إلحاحه على أن «يعيشوا» المكان.

من المهم الإشارة إلى أن الأمير تركي ما برح وفي كل لقاء، مع الوزراء ومع ضيوف المنطقة ومع مسؤوليها، وكذلك مع المواطنين، من الحديث عن وادي أبها، وعن أمنيات الأهالي بعودة التاريخ والجغرافيا في قالب مدني حديث، يواكب رؤية البلاد التي يعمل الجميع من أجلها، خلال سبعة أشهر كان الموضوع ناضجاً بشيء من الدراسات المبدئية، التي يمكن عرضها على قائد الرؤية وملهم القادة ولي العهد المعظم، والذي أعطى مباركته للفكرة بل وقف على أرض الواقع ولسان حاله يقول«بسم الله مجراها ومرساها»، أعجبني كثيراً ما قاله الأمير تركي لسمو ولي العهد بأن عسير هي الجسد، وأبها هي القلب والوادي هو الشريان في وسط القلب، ويا له من تشبيه رائع جمع المحاسن كلها، وللحديث في هذا الموضوع بقية في مقال منفصل.

ختاماً: قبل أيام تم وضع لوحات إعلانية في مدينة أبها، تدعو أصحاب الأملاك التي سيشملها المشروع، لمراجعة الجهة المعنية لاستكمال إجراءات النزع، ولا شك عندي أن جميع أهالي أبها وساكنيها وزوارها سيشاركون في إنجاح مهمة الشركة المنفذة، من أول يوم عمل حتى اكتمال المشروع، وسيسعد الجميع قريباً بحول الله بنقلة نوعية، تعيد نسمة الوادي ورائحة الشيح والكادي، وستكون مصدر دخل للمستثمر وباب رزق للباحثين عن العمل في بيئة سعيدة.