لا خلاف في أن معجم "العباب الزاخر واللباب الفاخر" أحد أهم وأضخم معاجم الألفاظ في اللغة العربية، لكن العجيب الغريب هو أنه على مدى أكثر من 800 عام منذ بداية تأليفه إلى وقتنا الحاضر اشتغل عليه بشكل أو بآخر العديد من العلماء من أفغانستان والباكستان وبغداد ومكة المكرمة والرياض، وفي كل مرحلة أو محطة وقعت أحداث غير عادية حفّت بالكتاب والمشتغلين عليه إلى الآن، فالمؤلف رضي الدين الصغاني توفي ولم يكمله، ووصل فيه إلى مادة (بكم) من حرف الميم، وكان قد أوصى أن يدفن بمكة، ولما توفي دفن ببغداد، ثم نقل رفاته إلى مكة بخمسين دينارا.

والوزير مؤيد الدين ابن العلقمي الذي أوعز إلى الصغاني بتأليف المعجم اتهم بأنه كان السبب في سقوط بغداد والدولة العباسية على يد المغول، ومات مقهورا مغموما مهانا، وأول من حقق الكتاب، العالم العراقي محمد حسن آل ياسين، الذي توفي بعد أن نشر 5 أجراء منه فقط، ثم حققه العالم الباكستاني محمد المخدومي، ومات بعد نشر 4 أجزاء منه، والمجلس الوطني للهجرة بباكستان الذي بدأ في نشر الكتاب أُلغِي بعد نشر 3 أجزاء منه، ثم حمل العالم الباكستاني أحمد خان الكتاب إلى الرياض عله يجد من يقوم بنشره، وقدمه إلى الدكتور يحيى جنيد بمركز الملك فيصل للبحوث ولكنه ترك المركز قبل البدء في العمل، وعندما جدد العمل عليه في مركز البحوث والتواصل المعرفي أسنده إلى الدكتور تركي بن سهو العتيبي الذي راجعه وأعاد تحقيقه، وعندما جهزه للنشر وقعت بين يديه نسخ جديدة من طاشقند بأوزبكستان، فأعاد العمل عليه من البداية، وأخيرا صدر عن المركز في 15 مجلدا.

فألقت عصاها واستقر بها النوى


كما قرَّ عينا بالإياب المسافرُ

معاجم اللغة العربية كثيرة وضخمة، أولها تأليفا معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (ت170ه)، 8 مجلدات، ومن أشهرها الصحاح أو تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري (ت393ه)، 6 مجلدات، جمع فيه ما صح عنده من اللغة التي حصلها بالعراق رواية ودراية، وشافه العرب في ديارهم بالبادية، ومعجم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (ت 370ه)، 17 مجلدا، الذي ولد في هراة بأفغانستان، وعاش ببغداد، وأَسَرَه القرامطة، وعاش مع أناس من هوازن في نجد، يقول: كنت لقوم يتكلمون بطبائعهم البدوية، ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، وكنا نشتي بالدهناء ونرتبع بالصمان، واستفدت منهم ألفاظا جمة.

ومعجم العباب الزاخر واللباب الفاخر لرضي الدين الحسن الصغاني (ت 650ه) من أهم هذه المعاجم، قال عنه جلال الدين السيوطي: وأعظم كتاب ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب المحكم والمحيط الأعظم، 11 مجلدا، لأبي علي بن سيده الأندلسي الضرير (ت458ه)، ثم كتاب العباب للرضي الصغاني.

المؤلف الصغاني

مؤلف معجم العباب الزاخر واللباب الفاخر هو رضي الدين الحسن بن محمد الصغاني، قرشي من نسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكنه ولد بلاهور (باكستان حاليا) ونشأ في غزنة (أفغانستان حاليا) وتنقل في أرجاء العالم الإسلامي من وسط آسيا إلى العراق والحجاز واليمن، وأقام طويلا بالهند، ومن الأماكن التي زارها جزيرة فرسان سنة 605 للهجرة، وعرف لأول مرة نبات المَرْخ في قُديد بمحافظة خليص بمنطقة مكة المكرمة، واشترى لبَنا في شكوة من امرأة متبرقعة بوادي الصفراء، ووصل إلى أعشاش قرب جبل طمية بالقصيم، ثم استقر ببغداد، وتوفي بها سنة 650ه قبل سقوطها على يد التتار واستباحتها 40 يوما وقتل حوالي مليون من سكانها، هذا عدا عن قتل العلماء والأئمة والقادة والأعيان، وكبار التجار، وأوصى الصغاني بأن يدفن في مكة المكرمة، وأوصى لمن يحمله إليها خمسين دينارا، فلذا دفن أولا في داره ببغداد، ثم نقل رفاته منها ودفن بمكة عملا بوصيته، في وقت كان الانتقال من بغداد إلى مكة فيه مع المشقة مخاطرة أمنية، فقبل وفاته ببضع سنوات انقطع الحج من العراق لأجل الاشتغال بحديث عساكر المغول.

التأليف والتحقيق

ألف الصغاني معجمه بناء على طلب الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي فيقول: أوعز إليّ بأن أؤلف كتابا في لغة العرب يكون بيمن نقيبته وفق الأرب، جامعا شتاتها وشواردها، حاويا مشاهير لغاتها وأوابدها، ليشتمل على أدنى التراكيب وأقاصيها، وبدأ الصغاني في تأليف المعجم عام 642ه تقريبا، وتوفي سنة 650ه ولم يكمله، وإنما وصل فيه إلى حرف الميم مادة (ب ك م).

وبعد نحو 750 عاما قام العالم العراقي محمد حسن آل ياسين بتحقيق 5 أجزاء من العباب، وتوفي قبل أن يستكمل البقية، ثم جاء العالم الباكستاني محمد حسن المخدومي الكشميري الذي عمل ليل نهار على تحقيقه لمدة عشرين سنة في إسلام أباد، وقام المجلس الوطني للهجرة الذي أنشأته دولة باكستان تنفيذا لقرارات المؤتمر الإسلامي عن استقبال القرن الخامس عشر الهجري بنشر 4 أجزاء منه ثم ألغي هذا المجلس وتوقفت طباعة بقية الأجزاء، وتوفي بعد ذلك المخدومي قبل أن يرى عمله النور كاملا، ثم جاء العالم الباكستاني أحمد خان المهتم بالمخطوطات العربية وأحضر التحقيق معه إلى الرياض وقدمه إلى أمين عام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الدكتور يحيى جنيد عام 2015، ثم ترك الدكتور يحيى المركز، ولما تولى مركز البحوث والتواصل المعرفي وجد أن التحقيق يحتاج إلى مراجعة فأسند الموضوع إلى أخينا الدكتور تركي بن سهو العتيبي وبدأ العمل عليه، وعندما انتهى عثر على قطعتين من مخطوطات الكتاب لم يقف عليهما المخدومي محفوظة في مكتبة البيروني بطاشقند بأوزبكستان، وكاتبها عالِم عاش في عصر المؤلف الصغاني، فعاد ابن سهو يقابل ما حرره وصححه وأعاد بناء التحقيق من جديد، ونشره مؤخرا مركز البحوث والتواصل المعرفي في خمسة عشر مجلدا.