فكيف نفهم معنى: (يمكر المجاز) المنتهي بمكر المجاز؟ هل هو لحظة تُشْبه نفي النفي في الديالكتيك الهيجلي؟ أم في ديالكتيك ما قبل هيجل؟.
إنَّ نفيَ النفي -في اللغة- إثبات، لأننا إن قلنا: (لا أريد أن لا أذهب)، فالمعنى: (أريد أن أذهب)، لكن لنا أن نسأل: ما الداعي لهذا الأسلوب الماكر حتى نثبت؟ ولنلحظ هنا لفظة (الماكر)؛ إذ قبل (هيجل) كان يُرى أنَّ الديالكتيك يستلزم المكرَ في المعرفة، كتلك التي يصنعها السفسطائيون مثلا. أي أنَّ الديالكتيك -قبل هيجل- لم يُلامس حركة التاريخ بصفتها تحمل بذرة تناقضها من الواقع المتلبس بالذات. فهيجل يُعطينا مثالا حول إمكانية تحول الجوزة إلى بلّوط، مع أنَّ الجوزةَ ليست هي البلوط؛ فيكون المعنى لديه: «إنَّ البلوطَ هو نفي الجوزة». ومن ثَمَّ فحركة التاريخ فيها تناقض، كالموجود في الجوزة؛ إذ هي بحسب الفعل (جوزة)، وبحسب الإمكانية (بلوط). فيكون تحول الجوزة إلى بلوط، هو يثبت -لدى هيجل- أننا لسنا أمام مكرٍ معرفي، يصنع تقدمًا وهميًا أو لنقل: ماكرًا.
هنا أعودُ إلى درويش في نص (مكر المجاز) يقول: «ويمتد وادٍ سحيقٍ أمامي/ وأمتد في ما تبقّى من السنديان...» والسنديانُ بلّوط، فما الذي تبقى من الذات الشاعرة؟
وماذا بعد البلوط؟ هل يعود إلى جوزة، بعودٍ أبدي؟ هنا درويش يُحَوِّل المجاز من مصدرٍ (مَكْر) إلى فعل (يمكر)، وذلك حين جعل من نفسه ممتدًا ضمن سيرورة السنديان نفسه، وهو هنا يتقاطع مع هيجل، على أساس أنَّ العقلَ البشري يرى أنه غريبٌ عن الطبيعة، إلا أنَّه لم يتفق مع هيجل بكون الوعي تجاوز الاغترابَ حين عَرَفَ أنه هو والطبيعة بُعدان لشيءٍ واحدٍ هي الروح المطلقة.
لكنَّ درويش يُؤسس منطقة جديدة، يمكن أن أُسمّيها: (مجاز المجاز) لن تكون اتحادا، وبُعدين لشيءٍ واحد، بل ستحتفظ بمفهوم (الاغتراب)، كنافذةٍ لرفضِ القطعية التاريخية. يقول درويش: «وثمة زيتونتان/ تَلُمَّانني من جهاتٍ ثلاث/ ويحملني طائران/ إلى الجهة الخالية/ من الأوج والهاوية».
الجهة الخالية من الأعلى ومن الأسفل، هي منطقة (مكر المجاز) وهذه المنطقة تُعَوِّل على الذاتِ -بصفتها وجودًا شخصيًا كما هي عند كيركيغارد- في الوصول إلى الصيرورة (مجاز المجاز)؛ إذ بعد أن كانَ المجاز (يمكر) توقف عن الفعل/التناقض، وتحول إلى مصدر (مكر). أي أن اللغة/المجاز، هي ما تُجلي لنا وجودنَا الشخصي، بصفتها مَسكنًا. ومن ثمَّ سيكون وصولنا لمنطقةِ مجاز المجاز كقفزةٍ في المجهول، فنحن نسكن اللغةَ حين نكتب الشعرَ، ولا تستخدمها الذات، كشيءٍ مُفَارقٍ عنها، بل كشيء ضمن جدل الذات في وجودها الشخصي.
ومن ثمَّ فإنَّ الواقع/الحقيقة هو في أصله مجاز، فيكون الشيءُ في ذاته يَتجلَّى بحسبِ حركة المجاز في الوجود الشخصي، إلى منطقةِ مجاز المجاز. ولعلَّ هذا ما ماتَ عليه درويش، ولعله -أيضًا- من هنا أطلقَ على ديوان أثر الفراشة (يوميات)؛ وتجلَّى بقول: «...هو خفة الأبدي في اليومي». إنها سيرورة غامضة، وقفزة في مجاهيل حركة المجاز. وهذا من معاني الوجود من منظار حركة التاريخ بالشعر؛ بصفته المنقذ من مآزق الوجود.
فإذا كنا نتحرك بالمجاز، من خلال وجودنا الشخصي فهل يمكن أن نتأمل سببًا جديدًا لخوفِ المنتصرين للحقيقة المطلقة المتعالية، حين أنكروا المجاز في اللغة؟ هل كون المجاز يَمكُر؛ سببًا للاختلاف حول وجوده في اللغة؟ من حيث إنَّ المكرَ صفةٌ للهِ كما في الآية: (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)، وستكون -حينها- كأنها صفة للحركة التاريخية نفسها. إلا أنَّ بعضَ المفسرين تَخلّص -من المجاز بالمجاز!- بقول إنها جاءت في سياق: (ويمكرون)؛ أي أنَّها جاءت مشاكلةً -كما تسميها العرب- والمشاكلة هي «ذِكْرُ الشيءِ بلفظِ غيره لوقوعه في صحبته» كقول عمرو بن كلثوم: «ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا/ فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلينَا»
ومن ثم لا بدَّ من التخلص من صفة المكر، وجعله صفة للإنسان فحسب وليست لله، ومن ثم ليست للتاريخ/المجاز. وهنا أُشير إلى شخصٍ -متقدم زمنيًا- أنكرَ المجاز -في اللغة نفسها- هو أبو إسحاق الإسفراييني، وذلك حين نفى العلاقة الثابتة بين الاسم والمسمى، ويجعلها مختلفة باختلاف الأمم، ومن ثم يجوز تغييرها.
ولا قيمة -عنده- من ثمَّ لأن نقول هذا القول متقدم، وهذا متأخر، ونبني -على ضوء هذا- ما هو حقيقي، وما هو مجازي. وهذا القول من الإسفراييني يُحيلنا إلى إلغاء المجاز، لا بكونه لاحقًا فحسب، بل بكونه موجودًا، ومن ثم فنحن أمام أغراضٍ وراء اللغة من الإسفراييني، وهذا ضد مَن وصف رأيَه بأنه لغوي بحت. إذ تأتي أغراض الإسفراييني بفصل اللغة عن الواقع، ودمجها في الآن نفسه، وذلك بأن يكون المسمى هو الواقعي، أما الاسم فهو في عالم الوجود، والواقعي لا نتحدث فيه عن متقدم ومتأخر، إذ ليس ثمة رابط بين الاسم والمسمى بصورة ثابتة ومن ثم ليس للمجاز وجود، أي أنَّ الإسفراييني يجعل اللغة مشطورة بين مسمى -هو ضمن العالم المحسوس- وبين اسم -هو ضمن عالم الوجود- وسيتساوى القول من ثمَّ، لكن بالانتصار لكونِ القول حقيقة تنتمي لعالم الوجود، فيسدّ الطريق على نفي الحقيقة المطلقة بالمجاز.
وأخيرًا: إلى أنوثةٍ ما:
أوغلي في المجاز، حتى تفيء الحقيقة، ثم اسألي بمصدرٍ ثاوٍ في أعماقكِ: ما الحقيقة؟