فإذا ما توافقت أقواله وتصرفاته الصريحة مع سياقات ومضامين معاني تلك الأقوال والتصرفات، فإن الاحتمالات تنتفي والإبهامات تتضح والإجمالات تتبين، فلا يبقى للتأويل أي مجال ولا يصار للتوقف في بيان مراده أي مسار، فيتقيد ذلك الشخص ويلتزم بأقواله وأفعاله التي صدرت منه، فليس هناك بعد ذلك أي مجال بأنه لم يبين مقصوده أو أنه لم يُرد ذلك المعنى الظاهر. أما من كان قوله محتملاً و مبهماً وغير مبَيّن، ولم تتضح سياقات أقواله وتصرفاته أنها معاني مراده ومقاصد محددة، ولم تتضح مطابقة سياقات ألفاظه وتصرفاته فإن ذلك القول لا يُحمل على ظاهره بل يحتاج إلى تفسير وبيان، وتجلي المعاني المقصودة، فصاحبه غير مؤاخذ منذ أول وهلة عند سماع قوله وتبادره للآخرين، بل لابد من التفصيل وإيضاح الإجمال حتى تظهر اليقينيات الرواجح التي توضح مراده، فعند تأمل أقوال وتصرفات من انتهج التخفي وراء التزندق في ألفاظه وأقواله، فأخذ يرمي البشر بكل طائشة و لاطشة من أحكام قاسية ومخرجة من الديانة الإسلامية تأسيساً على تصوراته وأفكاره المسبقة عن دولة ما ورجالاتها، فهو مثير للفتنة ومزعزعٌ للسلم الأهلي، وباحث عن إدراك الفوضى في المجتمعات الآمنة.
وفي هذه الحملة المسعورة بوصف أهل العلم بالزندقة، فإنه كان لزاماً أن يتم توضيح شيء بسيط للقارئ عن الزندقة، وهي لغة كلمة معرّبة من الفارسية استعملها العرب منذ فترة مبكرة في التاريخ الإسلامي للتعبير عن طائفة من الملاحدة، وشقّت طريقها إلى المعجم العربي منذ القرن الثاني للهجرة، فقال عنها الخليل في أقدم معجم عربي (هو كتاب العين): زندقة الزنديق: ألا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، وقيل: هو الذي لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق، والزندقة اصطلاحًا هي كما قال التّهانوي الزنديق: هو الثّنويّ القائل بإلهين منهما يكون النور والظلمة ويسميهما: يزدان، وأهريمن، الأول: خالق الخير، والثاني: خالق الشر، يعني الشيطان، (وقيل) هو الذي لا يؤمن بالحق تعالى وبالآخرة، وقيل: هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، (فالمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهما، أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة، ومن الناس من يقول الزنديق هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأول).
قال النووي: (الزنديق الذي لا ينتعل دينا (أي لا يتبع دينا) فكل زنديق منافق من غير عكس).
لذا فإن خطورة إطلاق حكم الزنديق على علماء ورجالات الدولة الآمنة المستقرة تنبع من أن من يطلق ذلك اللفظ ويحكم بذلك الحكم، يعلم يقيناً أن علماء أهل السنة قد قرروا أن الزنديق يتم قتله ولو أظهر التوبة، وذلك لخطورة الزندقة التي هي إبطان الكفر والإلحاد وكراهية وبغض الدين والشرائع الإسلامية، وهذا الحكم - أي القتل - قد يتلقفه الأغرار وسفهاء الأحلام، ممن تبنى التدين شكلياً وامتلأ حماسةً بأقوال أولئك المتخفين وراء إطلاق حكم الزنديق على علماء ورجالات الدولة المسلمة، فنصبح أمام صورة من صور ما ارتكبته داعش.
وهذا مسار غامض يخفى على كثير ممن لم يتمرس بأفكار وعقائد من ينتهجون التكفير وأفكار الجهاد والكفاح المسلح، وهو ملمح خطير يتوجب إبرازه للكافة دون استثناء، حتى تتبين حقيقة تلك الأقوال والدعوات التي تتلبس بحماية الدين الإسلامي وهي في حقيقتها تهدم الدين من خلال الإطاحة بمقاصده الحقيقية.
هذه حقيقة استعمال وإطلاق لفظ الزندقه على رجالات الدولة وسياسييها كي تعم الفوضى في البلاد وتحطم الاستقرار والأمن.