وقد أمر الله إبراهيم وابنه إسماعيل بإعادة بناء الكعبة، ودعوة الناس إلى الحج إليه، ليشهدوا منافع لهم وليذكروا الله عند المشهد الحرام، فجاء الناس من كل فج عميق بلغات وأجناس وأعراق مختلفة، ومن ممالك وإمارات كثيرة يحجون ويتاجرون حتى انصهرت اللغات واندمجت ببعضها مكونة اللغة العربية الفصيحة التي نالت من القدسية والتكريم ما لم تنله لغة في التاريخ، فوحدت الناس وآخت بينهم وعربت ألسنتهم حتى صار الناس يتنافسون في تعلمها ويسمون أنفسهم عربًا نسبة إلى العربية، وخرج الشعراء المؤبدون في التاريخ الذين قادوا اللغة إلى أرقى المستويات اللغوية، فكانت تعلق القصائد المميزة على أستار الكعبة، وهي أعلى وأقدم وأقدس وسام وجائزة في تاريخ اللغات، ألا ليت قومي يعلمون أو يتذكرون، فيبادرون في هذا الميدان، وأصبحت الأسر تتنافس في تعليم أبنائها وبناتها اللغة العربية، وتحفظهم الشعر، وتتمنى أن يولد أبناؤها وبناتها شعراء حتى يذيع صيتهم ويشتهرون في الناس، وينالون الفخر بهذه اللغة، وقد أصبحت الأسواق منصات للمبارزة الشعرية بين الشعراء، وتنوعت وتعددت أغراض الشعر وبحوره حتى تحول الشعر العربي إلى مؤسسة فكرية وحركة ثقافية نهضت بالقبائل المجاورة لمكة وبالحجاج الذين يأتون إلى البيت العتيق. وقد تسبب اشتهار الكعبة وتحولها إلى مركز جذب كوني إلى حقد الكثير من الأمم على مكة نتيجة المكانة التي اكتسبتها، فجاء إبرهة الحبشي بجيش عظيم وبقيادة الفيلة الموحشة بغرض هدمها، ولم يتمكن أهل مكة من الدفاع عنها لقلة عتادهم وإمكاناتهم، وكانت الكلمة المشهورة لجد الرسول محمد «أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه». فهزم الله إبرهة وتدخلت القدرة الربانية لدحره، وقد ولد في ذلك العام محمد ابن عبدالله من نسل إبراهيم عليهم السلام، واستمرت الحركة الفكرية الثقافية اللغوية في الانتشار والتوسع، فوصلت اللغة إلى أرقى المستويات اللغوية، وأصبح الناس لديهم فهم وقدرة لغوية عالية بحكمة ربانية، وتطورت ملكة الحفظ حتى يكونوا مؤهلين وقادرين على استيعاب الرسالة الجديدة والحدث العظيم الذي سوف يحدث في مكة، عندها أنزل الله كلامه القرآن على محمد رسول الله بلسان عربي مبين، فكان آخر كتاب مقدس وآخر رسول ونبي من هذه البقعة المباركة. وقد جاء القرآن والرسول للناس كافة قال تعالى: «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون». ولهذا هيأ الله الناس لغويًا لفهم كلامه وشرعه، وما كان الله لينزل كتابه على أناس مشتتين لغويًا وغير قادرين على استيعاب ما فيه من تشريعات وتوجيهات ومواعظ، وقد ميز الله العربية عن غيرها من اللغات بالقرآن فقال: «ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت آيته ءأعجمي وعربي». وقال تعالى: «وَلَوْ نـزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ». هنا فقط يا فخامة الرئيس تلتقي الأرض بالسماء منذ بنيت الكعبة في أول وجود للبشرية وحتى لحظة تحولها إلى قبلة للكون يتجه إليها مليارات الناس للصلاة والعبادة والدعاء في كل لحظة وثانية.
فخامة الرئيس هذه البلاد المباركة مليئة بالخيرات والمعجزات فقد كانت بلادنا في بداية القرن الماضي موحشة وخالية من أسباب التطور، وكانت الشعوب الأخرى تتطور وتتقدم، ونحن في هذه البيداء والفيافي الجافة نتنقل من منطقة إلى أخرى للبحث عن الماء والكلأ لمواشينا، ولم نكن نترك صلاتنا وصيامنا وعبادتنا وثقتنا بربنا. ولكن الله لم يتركنا هملاً أو عبثًا لإيماننا به تعالى، وافتخارنا بديننا الذي هو أصل الأديان كلها، فهو يقوم على مسألة بسيطة هي توحيد العبادة لله، والاستسلام له بالطاعة والخلوص من الشرك، ولهذا سمانا الله بالمسلمين لاستسلامنا له تعالى.
وهذا ما كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى، وهذا القرآن كلام الله، يصف الأنبياء والرسل جميعًا بالمسلمين، وبالتأكيد أنكم تعلمون ذلك يا فخامة الرئيس، ويعرفه الكثيرون من علمائكم الجادين غير المؤدلجين، كما أن مريم ابنة عمران في ديننا قد حازت الشرف الأعظم بسورة خاصة في القرآن نتلوها في صلاتنا، فهي عند ربنا وعندنا خير نساء العالمين، كيف لا؟ وهي أم عيسى النبي المسلم لله تعالى الذي خلقه الله معجزة من غير أب، مثل ما خلق آدم وحواء.
لقد تتالت المعجزات الروحية في بلادنا، ولكن المعجزات المادية فيها والتي تدركونها جيدًا من أهم معجزات هذا الزمان، ففي الوقت الذي ظهرت التطورات وانتشرت الحداثة والصناعة في كل مكان، يأبى الله إلا أن يكون لهذه البلاد دور ووظيفة للعبرة أولًا، وثانيًا ما كان الله ليترك البلاد التي اختارها لأول بيت أن تضعف أو تموت، ففجر الله النفط من تحت أقدامنا مثل ما فجر الماء من تحت أقدام إسماعيل عليه السلام. وصار النفط هو المحرك الحقيقي للمصانع والصناعات والآلات والاقتصاد، وجاء الله بالناس من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم من هذه البلاد التي تحرك اقتصاد العالم بحكمة ربانية وبعدالة سماوية تتجاوز فكر -إبرهة- الأناني المعتدي والمحتكر الذي لم يفهم قدرة الله فجاء لهدم الكعبة. ولو فهم أهمية هذه البلاد له وللعالم لما تجرأ عليها، ولكنه كمن ينزع قلبه من صدره، ولهذا تفتخر بلادنا بوجود مئات الملايين من المستفيدين على مر العقود من خيرات هذه البلاد التي أنعم الله عليها بنعم كثيرة، هي من أسرار الله وقدرته وفضله علينا وعلى العالم. ولهذا ليس في قواميس السعوديين والخليجيين والعرب والمسلمين الاحتكار والضرر، ولكن عمل الخير والتعاون مع الناس بغض النظر عن أديانهم ولغاتهم ودولهم ما داموا لا يحاربوننا ولا يتدخلون في شؤوننا ولا يعتدون على ثوابتنا ومرجعياتنا، فقد أمرنا الله أن نحسن إليهم ونتعاون معهم ونحبهم، ولهذا تخرج مليارات التحويلات شهريًا من دول الخليج لكل العالم دون منة أو أذى، ولم يزدها ذلك إلا محبة وتقديرًا لكل من عمل في بيوتنا ومصانعنا ومؤسساتنا ومتاجرنا، وهذا جزء من رسالة هذه البلاد ودورها الكوني الروحي والمادي، لهذا اختارها الله أن تكون في قلب العالم، واختارها قاحلة وقاسية «ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون».