من مآثر هذا الكتاب الذي يدرس شعائر الأضاحي العربية أن واضعه شاء بالضبط مجابهة الصعاب،غير هياب لما يكتنف سعيه هذا من محاذير ومحرمات.

ففي ضوء المعطيات التاريخية والإثنوغرافية " الاثنوغرافيا وصف الأعراق البشرية ، وهي فرع من فروع الانثروبولوجيا"، المتوافرة، يسعى يوسف شلحت إلى درس دقيق للأشكال البدائية لشعائر الأضاحي العربية ما قبل الإسلام، ومن ثم تبيان طبيعتها ووظيفتها في غرب الجزيرة العربية، محاولا وضعها مجددا في إطارها العقدي، العبادي، الطقوسي.

آليات الأضحية

يرى المؤلف أن الأضحية العربية ليست مجرد عمل من الأعمال، بل أيضا وسيلة لمقاربة الإله ،تستعمل قوة الفداء في دم الضحية أو الهدي المقدم في مكة.

ويدعم المؤلف عمله التاريخي والتوصيفي هذا بأبحاث تفسيرية تتناول المبادئ العامة لآليات الأضحية ووظائفها، معتمدا طريقة في النظر مغرية، تصلح ولا شك بمقدار ما يمكن اعتماد البرهان اللغوي، الفيلولوجي.


خاصة أن الموضوع يتعلق بواقعة اجتماعية شاملة، جاء الإصلاح الإسلامي ليقلبها رأسا على عقب.

سلسلة حركات

الأضحية كما يؤديها المسلمون العرب تعرضت لتحولات عميقة. من الضروري إذا، لفهمها، اكتناهها في سماتها الأصلية والحال، باستجابة طبيعية، شرع الإسلام الناشئ بتدمير مبرمج لكل الاحتفاليات الدينية الشركية في الجاهلية العربية القديمة.

ولا مشاحة أن الأضحية، وهي مركز العبادة، كانت الأقل بقاء. عمليًا لم يبق منها سوى جسم بلا حياة، سلسلة حركات، إيماءات بلا عرى ظاهرة، متقاربة مع الكل الشعائري.

إن هذه المصاعب وأخرى سواها يمكن عزوها إلى طبيعة الموضوع بالذات، وهي تجعل البحث عسيرا جدا وتفسّر إلى حد كبير تردد المؤلفين في الشروع بدرس هذه المسألة/ المشكلة.

ومع ذلك فإن الإحساس بالحاجة الماسة إلى مونوغرافيات دراسات فاردة كهذه يتعاظم رويدا رويدا.

جوهر المسألة

من مآثر هذا الكتاب أن واضعه شاء بالضبط مجابهة الصعاب. ففي ضوء المعطيات التاريخية والإثنوغرافية، يسعى إلى تبيان دقيق للأشكال البدائية لشعائر الأضاحي العربية، ويحاول وضعها مجددا في إطارها العبادي، الطقوسي.

وبغية النفاذ إلى صميم المنظومة، انطلق المؤلف من الإسلام إلى الجاهلية، متخذا غرب الجزيرة العربية إطارا لاستطلاعه.

مصادره، وهي مع الأعمال الإثنوغرافية، الأدب الجاهلي، القرآن والحديث، تثير أحيانا مشكلة الصدقية التاريخية. إلى ذلك، لا تسمح الخلافات المذهبية في الإسلام السني، دائما، بإعادة تكوين التمثلات التي تفترضها الشعيرة.

وأحيانا يراهن على فتات وبقايا، الفقهاء المنقسمون بين العقل والإيمان، بين منطق ما وتراث متذبذب نسبيا، بحيث إنهم ينهكون في آخر المطاف فيفوتهم جوهر المسألة.

وليمة قربانية

يرى المؤلف أن الأضحية العربية المؤسلمة ليست مجرد عمل تقوى، بل هي وسيلة لمقاربة الإله، تستعمل قوة الفداء في دم ضحية، وهي قوة ملحوظة في الضحية كما في الهدي المقدم في مكة.

وعلى كل حال، إن إراقة الدم هي شرط كل ذبح شرعي، حتى في حالة عمل ذبح عادي. يستكمل المؤلف عمله التاريخي والتوصيفي بأبحاث تفسيرية، لكن المهمة تغدو أدق منذ أن بدأ يتناول حقبة ما قبل الإسلام، ولولا فضل فقه اللغة والتاريخ المقارن، لما استطاع أن يعطينا فكرة عن المناخ «الديونيزي» للأضحية العربية القديمة، إذ كانت وظيفتها بنحو خاص افتداء الحاج، تطهيره وإعداده لاتحاد الألوهة إبان العيد الربيعي للعمرة.

ويتساءل المؤلف عما بقي، في هذه الظروف، من نظرية روبرتسون سميث الذي يربط الأضحية العربية بالطوطمية ويجعلها وليمة قربانية.

ويرى أن حجة سميث تقوم على تأويل خاطئ للشهادة العربية، نعني آلية النحر التي تدل على تبادل قوى أكثر مما تدل على مشاركة في مبدأ واحد، وتدل على منظومة افتداء أكثر مما تدل على تعزيز روابط القرابة، وعلى قربان أكثر من إيلاف.

ويرى السيد شلحت أن الأضحية ربما كانت في الأصل طريقة لتداول الطاقة الخلاقة الرامية إلى إعادة التوازن وإصلاح الاستنفاد، وتأمين توزيع القوى المنتشرة في العالم.

كما يتعلق الأمر بواقعة اجتماعية شاملة قلبها الإصلاح الإسلامي رأسا على عقب.

شعيرة غنية

يقطع المؤلف مع الموقف المتحفظ الملحوظ غالبا في التبحر الخاص بالمناطق غير «الكلاسيكية» للدين الإسلامي.

فالمعطيات المتنافرة التي يقدمها لنا تاريخ الأديان، والمساهمة المضطردة للإثنوغرافيا وحتى لما قبل التاريخ، تبين كثافة المسألة ومدى قدمها.

بحيث إننا حين نقف في أعلى سلم العصور، نبدأ بالتساؤل: إلى أي حد تُعدّ الأضحية دينية أكثر مما هي سحرية، وتعد اجتماعية أكثر مما هي فردية؟ زد على ذلك أن تشابك الشعيرة والأسطورة يبلغ هنا درجة من الكثافة بحيث يكون من المجازفة الكلام، أكثر من أي موضع آخر، على أسبقية إحداهما على الأخرى. حتى إن التقنية لا تخلو من تعقيد الأمور، نظرًا لعلاقاتها مع المستوى النفسي.

وإن شعيرة غنية كهذه، وصفات صاغها بمهارة أولئك الصناع الأوائل من السحرة والكهنة، تدل على الاهتمام باستخدام طرق ومناهج مبنية بشق النفس وبدقة، حتى يتم بلوغ الأهداف المنشودة بأقصى قدر من النجاح.

تصنيف الأضاحي

يتساءل المؤلف هل سيمكننا تجاهل تأثير البيئة في تطور الأضحية؟

إن حياة الصحراء وما تفرض من فردية شرسة على أبناء القفار الرملية، إنما تلون الشعيرة بصبغة أخرى غير التي قد تنصبغ بها في تجمع مدني حيث الحياة الاجتماعية أكثف.

ويضيف موسعا تساؤلاته: لا تزال الأهداف التي تنشدها هذه الشعيرة بعيدة عن تبسيط معطيات المسألة. ذلك أن المحاولات التصنيفية العديدة التي قام بها مؤلفون شئی، تبرهن على صحة قولنا.

فتصنيف الأضاحي حسب تواترها: يوميا، شهريا، فصليا، حوليا،

أو حسب وظيفتها: أضحية إيلافية، عتقية، تطهيرية، فعل رحمة، إحسان، تكفير، تكريس... إلخ، أو أخيرا طبيعة القربان: الأضاحي الدامية أو بغير دماء، أليس دليلاً على غنى العناصر التجهيزية؟

التراث الإبراهيمي

يقول المؤلف: لئن تراءى لنا طبيعيا غياب الأساطير عند العربي البدوي، فإنه بالعكس يبدو لنا غير طبيعي عند الحضري.

الواقع أن المدن تشكل مواطن دينية أكثف وأحد من عزلة الصحراء. ونعلم من جهة ثانية أنه في مرحلة الهجرة كانت المراكز الكبرى في غرب الجزيرة العربية، خصوصا مكة، على اتصال دائم مع الحضارات المجاورة، ومن المحتمل جدا أنه كان هناك تبادل ثقافي وديني بين الطرفين، إذ تلحظ خصوبة في التخيل غير متوافقة مع النقد التاريخي، مع ذلك يمكننا تقدير أهميتها من خلال التراث الإبراهيمي الذي يضطلع بدور كبير في القرآن.

ذلك أن إبراهيم هو الذي أقام، مع إسماعيل، بيت الله في مكة. وما الأضحية التي يقدمها الحاج سوى تكرار لشعيرة سابقة وبذلك تكتسب فعالية أكبر، فإلى إبراهيم تُعزى مؤسسة الأضحية ومناسك الرمي.

تقديم قرابين

يتنقل بنا الكتاب في عوالم وشعائر الأضحية، كل أضحية محددة في الزمان والمكان، أي أنها تنحر في الأضحى، وتعتبر عملا زهديا وتاليا يمكن للمضحي أن يأكلها.

سنرى المصاعب العديدة التي نصطدم بها في تطبيق هذا المبدأ، لأن الأضحية يفترض أنها قربانية، غالبا ما تكون تكفيرية.

كذلك، فإن كل أضحية محددة في الزمان، أي تقدم في العالم المسلم ما بين 10 و12 من شهر ذي الحجة، تعد أيضا عملا زهديا.

لكن الأضاحي المقدمة في مكة، دون تحديد زمني، هي التي ترتدي عموما طابعا تكفيريا (أضاحي العتق والتطهر).

أما الأضاحي غير المحددة فتجري الدلالة عليها بلفظ عام: ذبيحة، لذا، إلى جانب تقديم الأضاحي، مارس العرب، مثل جميع الساميين الآخرين، تقديم قرابين غير دموية.

إن العاشر من شهر ذي الحجة، المسمى يوم النحر، لا يؤشر فقط على ذبائح منى، بل إن المؤمنين في كل أنحاء العالم المسلم، يحتفلون بهذا العيد، على غرار الحجاج، فهو واحد من أعظم أعيادهم، الذي يقدمون فيه الضحايا.

هذه الأضاحي تسمى ضحايا، جمع ضحية، من فعل ضحى.

يوسف باسيل شلحت

*
(1919 - 1994)

*عالم وباحث في علم الاجتماع الديني والإثنولوجيا

* يكاد أن يكون مؤسّس علم الاجتماع الدينيِّ العربيِّ

*التحق بجامعة السوربون لمتابعة تخصّصه في علم الاجتماع

*حصل على الدكتوراه عن أطروحة (الأضاحي عند العرب) تحت إشراف الأنثربولوجي الفرنسي مارسيل غريول

*اختير ضمن فريق كلود ليفي ستروس كمختصٍّ في الأنثروبولوجيا في العالم العربي

*عمل في المركز الوطني للبحوث العلميّة (C.N.R. S) في باريس:

- مع ستروس (1908 - 2009)

- مع المؤرخ جاك بيرك (1910 - 1995)

- مع المستشرق مكسيم ردونسون (1915 - 2004)