هذا المقال هو وجهة نظر وهو، أيضاً، استفسار مطروح على الهيئات العلمية والفقهية.

الحج فريضة لم تتوقف منذ أيام إبراهيم عليه السلام. وكل الكلام حول أن الحج فرض على النبي محمد وأتباعه سنة كذا أو سنة كذا هو كلام يفتقر للصحة والدقة.

لا بد في البدء أن نوضح أن «البيت الحرام» هو مكة بمشاعرها مهما اتسعت، وهي مقام إبراهيم وهي البقعة المباركة، أما المسجد الحرام فهو المسجد المعروف مهما اتسع، وهو جزء من مكة.


اقترن الحج والبيت والمسجد في خطاب القرآن الكريم بالناس، وهو أمر لافت للانتباه.

«أول بيت وضع للناس» و «أذن في الناس بالحج» «جعلنا البيت مثابة للناس» و «المسجد الحرام الذي جعلناه للناس» و«أفيضوا من حيث أفاض الناس» و«لله على الناس حج البيت». إن «أل» هنا تشمل كل الناس حتى كأنه لا استثناء فيها.

أما في الصلاة فيقول «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا».

وفي الصيام يقول «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم».

أما الحج فهو للناس وهو عبادة مختلفة تستغرق أشهراً، تشمل السياحة، والتجارة والثقافة وفي آخرها المناسك في أيام معدودة.

فآيات الحج تحرض الناس على ابتغاء الرزق قبل المناسك، بل ذلك غاية من غايات الحج إن لم تكن غايته الأولى، ففيها يتعارف الناس ويتثاقفون ويجربون العيش بسلام لأشهر، بلا رفث ولا فسوق ولا جدال.

في سورة الحج «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق».

وهذه الآيات توضح الغايات من الحج: شهود المنافع، وهي ابتغاء الرزق، وهي أيضا إحدى عوامل الجذب، ثم الهدْي والصدقة، ووفاء النذور، وأخيراً السياحة، التطواف في مكة والتعرف عليها.

في سورة الحج يؤكد القرآن الكريم مرتين أن لكل أمة منسكاً، والأمة بمعنى الملّة أو أهل الديانة. في الآية الأولى: «ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين».

فاختلاف المناسك أمر متوقع، لكن الإله واحد، فأخلصوا له. وهذه الأمم من ضمن الناس، واختلاف المناسك بين الناس في الحج يجب ألا يكون موضوع جدال ولا نزاع.

يقول «لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه، فلا ينازعنك في الأمر، وادعُ إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون».

الخطاب هنا موجه للرسول عليه السلام، وتضع الآيات احتمال وجود اختلاف في المناسك بينه وبين (أمم) لها طرقها في النسك، وتوصيه الآيات بأن لا نزاع في الاختلاف، وإذا هذه الأمم جادلت في ذلك فعلى النبي أن يكتفي بالقول لهم إن الله يعلم عملهم.. ثم تعلّق الآيات بأن الله يوم القيامة يحكم بينكم وبينهم في هذه الاختلافات.

في آخر سورة الحج، وبعد هذه الوصايا حول القبول بالاختلاف وعدم المنازعة تختم السورة وصاياها لكل المؤمنين بالاجتهاد في واجباتهم نحو الله، فالله هو اجتباهم ولم يجعل عليهم حرجا في الدين، وهو يحكم في اختلافاتهم يوم القيامة، وأن ملتهم، بما هم موحدون مخبتون، هي ملة أبيهم إبراهيم (وإن اختلفت مناسكهم) وأن الله سمّاهم المسلمين في الرسالات السابقة وفي الرسالة المحمدية.

وهذه الوصايا بلغتها وسياقاتها لا يمكن أن تكون إلا لملل مختلفة وأتباع مختلفين، أي ليسوا أتباع محمد عليه السلام فقط.

من آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة، فقد نزلت بعد حجة الوداع، أي قبل وفاته عليه السلام بشهور. وهي تبدأ بوصايا للمؤمنين من بينها ألا يتعرضوا لقاصدي البيت الحرام أبدا «... ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يَجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».

ويقول المفسرون إن المقصود هم الكفار والمشركون القاصدون البيت الحرام، وأن ذلك تأليفا لقلوبهم. وتأمر الآية المؤمنين ألا ينتقموا من أحد بسبب تعرضهم للصد عن المسجد الحرام من قبل، وأن يتعاونوا على البر والتقوى.

تبقى آية سورة التوبة «إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا» وهذه الآيات حُمّلت بأكثر مما تحتمل، فهي في سياق واضح أنه لا يقصد كل المشركين، بل يقصد مشركي قريش الذين يديرون المسجد والبيت والحج. والقصد هو إبعادهم عن إدارته. ولا نعلم أن الله أو الرسول منعا أحداً من الحج أو من دخول مكة، البيت الحرام.

أصحاب الديانات السماوية الأخرى، ونتيجة للتحريف، انصرفوا من زمن بعيد للحج إلى أماكن أخرى غير مكة، وهذا المقال لا يقصد إعادتهم إليها، بل القصد هو إظهار أن الإسلام، كما هو في القرآن الكريم، لا يمنع أحدا من الحج إلى البيت. لأن غاية الحج هي ثقافة السلام للكل.