في حديثنا السابق "مستقبل مصر بعد الانتخابات الرئاسية"، أشرنا إلى أن عدد المرشحين لهذه الانتخابات بلغ 13 فردا، إلا أنهم يمثلون ثلاثة خطوط سياسية: خط الإسلام السياسي، وتيار الحكم السابق، المتمثل في بقايا الحزب الوطني، والمؤسسة العسكرية. أما التيار الثالث، فيضم التوجهات القومية والليبرالية والوطنية، والقوى الشبابية التي قادت الثورة.

النتائج الأولية للانتخابات أثبتت صحة قراءتنا السابقة إلى حد كبير، رغم أنها حملت مفاجآت كثيرة لم تكن في حسباننا. فقد أكدت الترتيب الذي وضعناه. فجاء ممثل الإخوان المسلمين، محمد مرسي بالدرجة الأولى، وممثل المؤسسة العسكرية، أحمد شفيق بالدرجة الثانية. وممثل التيار القومي والدولة المدنية حمدين صباحي بالدرجة الثالثة. وهكذا جرى تمثيل جميع القوى السياسية، بالمحصلة المعلنة للانتخابات.

بقي أن نتحدث عن المفاجآت، وهي كثيرة، ونقدم قراءة لأسبابها:

المفاجأة الأولى، أن الإخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية تنافسا على الموقع الأول، حيث إن الفارق بين مرسي وشفيق، لم يتجاوز 08%. وقد حدث ذلك بالضد من توقعات المراقبين، ومن الإخوان المسلمين أنفسهم الذين أكدوا مرارا، أنه لن تكون هناك انتخابات إعادة لأنهم سيحسمون الموقف من الجولة الأولى. وجاءت النتائج مخيبة لآمالهم، حيث لم تتجاوز نسبة ما حصل عليه مرسي الـ25% من أعداد المقترعين.

المفاجأة الأخرى، أن الفائز الثاني، هو أحمد شفيق آخر رئيس للحكومة المصرية في عهد الرئيس مبارك. وهو أمر لم يتوقعه أحد. فقد عول كثيرون على فوز عمرو موسى، وزير خارجية مصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، الذي جاء ترتيبه الخامس بين المرشحين، في حين وضعه كثيرون في أعلى القائمة، ورجحوا احتمال اكتسابه للموقع الأول. بمعنى أننا هنا أمام مفاجأتين: صعود شفيق للمرتبة الثانية، وتراجع موسى إلى المرتبة الأخيرة، بين المرشحين الأماميين الخمسة.

المفاجأة الرابعة، أن كثيرا من المراقبين والمتابعين للحملة الانتخابية، راهنوا على فوز الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، كونه يمثل وسطا بين الإسلاميين وأنصار الدولة المدنية. ولكن ترتيبه جاء الرابع في قائمة المرشحين. وهو ما لم يتوقعه أحد. فقد وضعته أكثر التقديرات تشاؤما بالترتيب الثاني. ولكن النتائج جاءت بما لا تشتهي السفن. وكانت قراءتنا الأولى قد أشارت إلى تنافسه مع عمرو موسى على الموقع الأول.

أما المفاجأة الأكبر، فهي صعود نجم حمدين صباحي، ووصوله إلى الترتيب الثالث، متخطيا في ذلك عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح. بل إن تقرير فريق الرئيس الأميركي، جيمي كارتر وضعه بالترتيب الثاني، مشيرا إلى بعض الطعون التي تتهم المؤسسة العسكرية، بمخالفة القوانين الانتخابية، لأنها سمحت لقوى الأمن المركزي والشرطة بالمشاركة في الانتخابات. وتوضح تلك الطعون أن أعداد هؤلاء تجاوز الـ 900 ألف شخص، صوتت غالبيتهم للمرشح أحمد شفيق، بما رجح كفته أمام حمدين صباحي.

المفاجئ في تقدم صباحي لم يكن بسبب الشك في أهليته للموقع الأمامي، ولكن نتيجة غياب المؤسسة السياسية التي تقف خلفه. فالحزب الذي يرأسه "الكرامة"، قياسا لغيره من الأحزاب السياسية، هو حزب صغير، تأسس بعد انشقاق عدد من القيادات الشابة، بقيادته شخصيا، عن الحزب العربي الناصري، منذ أكثر من عقد. لكنه لم يحقق حضورا سياسيا قويا قبل انتفاضة 25 يناير 2011. وقد انتخب صباحي لعدة دورات في مجلس الشعب نائبا عن مقر ولادته محافظة كفر الشيخ، وبقي نائبا حتى ما قبل الدورة الانتخابية الأخيرة التي عقدت بالعهد السابق، والتي حامت شكوك كبيرة حول نتائجها.

لم تحظ حملة صباحي، بما حظيت به غيرها، منذ بداية الحملة الانتخابية من تغطية إعلامية واسعة. وذلك يعود إلى افتقارها للمال، وأيضا لموقف الكثير من أجهزة الإعلام التي رأت في برنامجه المستقل، عودة للطرح القومي العربي الذي ساد بالخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. وجاءت نتائج الانتخابات لتؤكد الحضور القوي، لهذا التيار بمصر.

فيما يتعلق بالمرشح مرسي، فإنه تضرر كثيرا من ممارسات الإخوان المسلمين، بعد هيمنتهم على البرلمان المصري. حيث برزت روح الاستعلاء والإقصاء، وإعادة إنتاج النظام القديم بأقنعة دينية. وقد انشغل أعضاء المجلس بأمور هامشية، لا تشكل اهتماما لدى المصريين، مغيبا قضايا التنمية ومكافحة الفساد، والتخلص من تركة النظام السابق، من عجز اقتصادي وإداري وتغول للبيروقراطية وعجز عن مقابلة استحقاقات الناس.

كما أن الكثير من الناخبين، لم يقبلوا بفكرة هيمنة حركة الإخوان المسلمين على المراكز التشريعية والتنفيذية في آن معا. فقد رأوا أن الهيمنة على مجلس الشعب والحكومة ورئاسة الجمهورية جميعا، من شأنها أن تسهل عليهم صياغة الدستور ولوائح الدولة وقوانينها بالطريقة التي تضمن لهم سيطرة مطلقة على الحكم. وأن هذه الهيمنة هي وجه آخر للديكتاتورية التي ناضل المصريون للتخلص منها. ولذلك تأتي حالة النتائج ضمن واقع موضوعي صحيح.

أما بالنسبة لعبدالمنعم أبو الفتوح، فقد أضر به كثيرا ما أشيع عن تبعيته لتيار الإسلام السياسي. فالمؤيدون للإخوان المسلمين لم يجدوا مبررا لانتخابه، طالما أن هناك شخصا آخر مرشحا من قبل الحركة، هو السيد مرسي. أما خصومهم فحسبوه على الإخوان وامتنعوا عن التصويت له. وهكذا كان ضحية إشاعة تبعيته للإسلام السياسي. وفي هذا السياق أيضا، يذكر أن المناظرة التي جرت بينه وبين السيد عمرو موسى أضرت بهما معا، حيث تبادلا الهجوم وتراشقا التهم، وكشف كل منهما عن سوءات الآخر، والنتيجة أن كليهما خسر المعركة الانتخابية. وكانت تلك هي تجربة المناظرات الوحيدة التي تمت بالحملة الانتخابية.

وبديهي أن تتجه الأصوات التي كان من الممكن أن تتجه لموسى، بعد فشله في المناظرة، إلى شفيق كونه الأقرب سياسيا وفكريا، وتاريخيا لرؤيته. وهكذا كسب شفيق غالبية الأصوات التي من المفترض أن تذهب للأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى، إضافة إلى الأصوات القريبة من المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها شفيق. تلك فرضية لا نجزم بصحتها ولكنها مطروحة للنقاش، على أية حال.

ويبقى علينا أن نواصل قراءتنا للمشهد الانتخابي، حتى نهايته في قراءات أخرى.