ورأى هؤلاء أن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار في ظل ثبات دخل الفرد سيرتب كثيرا من السلبيات ويحدث حالة من عدم التوازن التي تسفر عن مشكلات نفسية واجتماعية عدة.
وتشير الدكتورة هنادي أبو رحيلة (دكتوراه في الاضطرابات النفسية) إلى أن زيادة الضغوط الحياتية والسرعة الهائلة في إيقاع العصر أوقعا كثيرين فريسة للتوتر والقلق والاضطرابات النفسية.
وقالت «تتأثر راحة الشخص النفسية بعوامل عدة خارجية وداخلية، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية، ومن هذه المؤثرات التذبذب في أسعار السلع الاستهلاكية، حيث واجه المستهلك خلال الفترة الماضية ضغطا كبيرا وزيادة غير متوقعة في الأسعار، كما أنه غير معتاد على معدلات التضخم، وهذا ما يؤثر سلبا على استقراره النفسي، وبالتالي صحته النفسية».
غياب التكيف
توضح أبو رحيلة أن عدم القدرة على التكيف الإيجابي مع التضخم الاقتصادي يؤثر على استمتاع الفرد بالحياة، وعلى التوازن بين أنشطة الحياة ومتطلباتها، وبالتالي تظهر بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والتوتر التي تؤثر على العلاقات الزوجية وتزيد المشكلات الأسرية والضغط على رب الأسرة.
وأردفت «لا بد من التحلي بالوعي الذاتي لمواجهة المؤثرات السلبية ورفع ثقافة الوعي الاستهلاكي ودراسة الوضع الاستهلاكي للأسرة، ومشاركة الأبناء بالأمر لزيادة وعيهم الاقتصادي وتطويره».
نزعة استهلاكية
أكد الباحث الأكاديمي المتخصص في القضايا الاجتماعية والأسرية خالد الدوس، أن ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، وهي ظاهرة عالمية تخلف مشكلات اجتماعية ونفسية وأمنية ومعيشية وصحية عدة، تطال معظم أفراد الأسرة، وتزعزع استقرارهم النفسي والعاطفي، فسوء التغذية والمسكن وموجة الغلاء تؤثر على سلامتهم عضويا ونفسيا، وتحد من قدرتهم على التكيف الاجتماعي، وتظهر الضغوط المادية والنفسية والاقتصادية على بعض الأفراد والأسر نتيجة النزعة الاستهلاكية، وبالتالي فإن زيادة حجم الإنفاق الاستهلاكي مع عدم توفر المال الكافي يجعل الفرد يلجأ للاستدانة، وتزيد شريحة الفقراء ومحدودي الدخل في المجتمع، هذا فضلا عن الآثار الاجتماعية الأخرى الناتجة عن ظاهرة الغلاء على اعتبار الغلاء ضمن العوامل الرئيسة المؤدية إلى انتشار مظاهر الفساد المالي والإداري وارتفاع معدلات الجريمة والسرقات.
ظواهر مع التضخم
أوضح الدوس أن التضخم يؤدي إلى عزوف بعض الشباب عن الزواج وتكوين الأسر الجديدة لعدم قدرتهم على تحمل المصاريف والتكاليف المعيشية، وهذا يخلق مشاكل اجتماعية عدة مثل العنوسة والانحرافات الأخلاقية وغيرها.
وقال «سيجد بعض الشباب وخاصة المقبلين على الزواج أنفسهم عاجزين عن توفير مسكن ملائم في ظل هذا الارتفاع الجنوني في أسعار مواد البناء، كما يقلص قدرة البعض على شراء المنازل والشقق السكنية، والدراسات الحديثة في علم الاجتماع الأسري تشير معطياتها إلى أن العامل الاقتصادي يقف خلف ما نسبته 80% من المشاكل الأسرية من طلاق وتفكك أسري وعنف منزلي وفراغ عاطفي، فضلا عن تأثير ذلك على النمو النفسي والعاطفي والاجتماعي والوجداني السليم للأطفال، كما يقود إلى تفشي قضية التسرب المدرسي للطلاب إذا تمت تنشئتهم في بيئة أسرية غير مستقرة تعاني من خلل معيشي واضطراب اقتصادي».
انقسامات مجتمعية
واصل الدوس الحديث عن الآثار الاجتماعية للتضخم، ويقول «ارتفاع موجة التضخم والغلاء ربما تؤدي إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين، طبقة غنية وأخرى فقيرة، ومعروف أن ارتفاع معدلات التضخم تعد العدو اللدود للطبقة الوسطى التي تعد (وتد) المجتمع البشري وصمام أمانه وحافظ توازنه».
إنفاق عشوائي
بين الدوس أنه «في المقابل نجد أن الثقافة الاستهلاكية القائمة على «الترفية» تدفع بالفرد إلى الإنفاق العشوائي بصورة خارجة عن قواعد الضبط، ومتخطية لحدود الإمكانيات المادية، وبالتالي توّلد نمطا اقتصاديا يعرّض معتاده إلى مخاطر كثيرة.. وثقافة الاستهلاك من المواضيع الحيوية التي تحظى حاليا باهتمام كثيرٍ من الباحثين في الشأن الاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي لكونها تلعب دورا مهما في رقي وتطور المجتمعات، فالمستهلك الذي يملك ثقافة استهلاكية واعية ومتزنة حتما ستنعكس - ميكانيكيا - على حياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والصحية والعاطفية، بينما شيوع ثقافة الاستهلاك التفاخري أو الترفيه في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية بقصد التباهي وحب الظهور وتعويض نقص اجتماعي مركب ومجاراة التقاليد الاجتماعية يُعد حالة مرضية، واستنزافا للموارد، وهدما للقيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية».
ثقافة مغيبة
ركز الدوس على أن دور الأسرة مهم في غرس قيم الوعي الاستهلاكي لدى الطفل، فالطفل يتعلم السلوك الاستهلاكي كعملية الشراء ومفهوم الميزانية ومفهوم الادخار مثلاً من تأثير سلوك والديه لكن هذه الثقافة الواعية شبه مغيّبة داخل دهاليز الأسرة السعودية بدليل أن حمّى الاستهلاك الترفيهي طالت حتى أدنى طبقة من طبقات المجتمع في مجاراة للنمط العام، لا سيما وأن مجتمعنا اليوم كسائر المجتمعات البشرية أصبح يواجه تحديات (النزعة الاستهلاكية التفاخرية) في ظل عالم يشهد تغيرات اجتماعية وتحولات اقتصادية رهيبة تدعم ثقافة الاستهلاك الترفيهي وترجع آفة انتشار النزعات الاستهلاكية المفرطة في نسيجنا المجتمعي إلى عدة أسباب وعوامل مثل غياب الوعي الاستهلاكي المجتمعي وارتفاع مستوى الدخل والتعليم أو الاختلاط بالثقافات الأخرى أو الإقامة في المناطق الحضرية وغيرها من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والنفسية.
ولذلك من الأهمية بمكان تشجيع الأفراد في مجتمعنا السعودي الفتي على تبني ثقافة الادخار وتيسير فتح قنوات فعّالة لاستثمار مدخراتهم، وترشيد عملية الاستهلاك في قالبها الإيجابي، وذلك من خلال تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية وهي الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية التي تساهم في رفع سقف (الوعي الاستهلاكي) بالمجتمع وضبط توازنه.