وهذه المقدمة هي أن التعرض للنبي صلى الله عليه وسلم بالسخرية والاستهزاء من قبل غير المسلمين لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فمنذ بعث الله عز وجل الرسل وأقوامهم يستهزءون بهم قال تعالى َ(لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) فلما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)، سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي: نزل بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي نزل بهم العذاب، وتقطعت عنهم الأسباب، فليحذر هؤلاء، أن يصيبهم ما أصاب أولئك المكذبين، وهذه الآية (ولقد أستهزئ برسل من قبلك) قد وردت في ثلاث سور من القرآن الكريم في سورة الأنعام الآية (10) وفي سورة الرعد آية (32) وفي سورة الأنبياء آية (41)، وهذا التكرار لهذه الآية والتذكير بأن الرسل السابقين قد تم الاستهزاء بهم، له مقصد ومعنى وغرض مهم يتوجب أن يرسخ في الذات المؤمنة المسلمة، ويعلق في أذهان المؤمنين المسلمين ولا يغفلوا عنه، وهو أن هذا السلوك المشين والمزعج سوف يتكرر ولن يتوقف، لذا فلا بد من المضي بحياة المسلم في ظل هذه الظروف التي تتكدر بالإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الإساءة للنبي قد حدثت له هو شخصه وذاته الكريمة، وذلك قد تحقق في أذى قريش له بكل أشكال الإساءات.
فبداية من محاولات اغتياله، فيما ورد في كتب السيرة والسنن وهي أعظم حالات الاستهزاء والسخرية. منها محاولة قريش مبادلة الرسول بعمارة بن الوليد، ومحاولة عقبة بن أبي معيط ومحاولة أبي جهل لعنه الله ومحاولة قريش قتله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، ومحاولة سراقة بن مالك قتله ومحاولة عمير بن وهب الجمحي ومحاولة بني النضير (عمرو بن جحاش بن كعب اليهودي)، ثم محاولة تسميمه من قبل اليهود فقد أرسلت امرأة من يهود خيبر إليه، بشاةٍ مشويَّةٍ ودسَّت فيها سُمًّا ناقعًا، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه: «أنَّ امرأةً يهوديَّةً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ قالت: أردتُ لأقتلك، فقال: مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ، أو قال: عَلَى ذَلِكَ. قالوا: أَلَا تقتلها؟ قال: لَا».
وكذلك محاولة المنافقين في غزوة تبوك قتله فقد روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (كنتُ آخذًا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوق الناقة، أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به، حتى إذا كُنَّا بالعقبة في غزوة تبوك، إذا باثني عشر رجلًا قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرخ بهم فولُّوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟». قلنا: لا، يا رسول الله! قد كانوا متلثِّمين، ولكنَّا قد عرفنا الركاب. قال: «هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أَرَادُوا؟». قلنا: لا. قال: «أَرَادُوا أَنْ يَزْحَمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَقَبَةِ فَيُلْقُوهُ مِنْهَا». قلنا: يا رسول الله! أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كلَّ قومٍ برأس صاحبهم. قال: «لَا، أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتِلٌ لِقَوْمِهِ»، وقد أنزل الله تعالى في المنافقين قرآنًا يفضح أفعالهم الخبيثة وكراهية قلوبهم لرسوله.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد سامته قريش سوم العذاب والاستهزاء حتى وصل بهم أن وضعوا السلى (الأوساخ) عليه وهو ساجد يصلي فما ضره ذلك أي شيء ولم يُرعد ويُزبد ويدعو على قومه بالثبور، بل كان يتمنى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، كما في قصته مع أهل الطائف، فصبر وأعمل الحكمة اليقينية التي نال بها مراده فيما بعد عند هجرته إلى المدينة.
ومثل هذه الأحداث المعاصرة هي مدخل حقيقي لمثيري الشغب ومحبي الثورات ومكدري صفو استقرار المجتمعات، وذلك بتهييج العامة بكلمة الجهاد في سبيل الله، فقد صُدعت أسماعنا بأن على المسلمين الخروج للجهاد في سبيل الله ضد هذه الفئة الهندوسية.
وهذه دعوة حقيقية للفوضى وضياع استقرار وأمن المجتمعات المطمئنة، فمثل هذه الدعوات تجد سوقها في مثل هذه الأحداث التي ما فتئ المسار الذي يحمل روحًا جهاديةً بمفاهيمه التي يتمسك بها ويجد فيها فرجًا لفكره الخطير على الأمة.
وهذا الفكر الجهادي الشاذ أسوأ في نتائجه من أحداث الاستهزاء والسخرية التي تعاملت معها الشريعة بكل حكمة وحنكة وتؤدة وصبر، دون تخريب للأموال وخسران للأرواح.