وقليل هم الذين إذا عضهم الألم فأدماهم جعلوا من دمائهم بلسماً لجراحهم. وأقل منهم أولئك الذين يسمعون في صوت الألم صوت المعلم الحنون، ويلمسون في يده يد المربي الماهر أو يد الآسي الرفيق، فيستقبلونه استقبال الصديق ويكرمون وفادته ويقبلون بالشكر وبالفهم رسالته.
ومن طبيعة الموجوع أنه لا يلذ له شيء مثلما يلذ له التحدث عن أوجاعه. فهي الموضوع الأحب إلى لسانه وأذنه وقلبه. فكأن مكمن الوجع فيه هو المحور الذي تدور عليه حياته. وكأن العضو المصاب في جسده، أضرساً كان أم إصبعاً أم ظفراً، هو العضو الأول والأهم في جسده. بل هو الجسد، أو يتناسى، أن قلبه ما يزال ينبض بالحياة، وأن رئتيه وعينيه وأذنيه ومعدته وأمعاءه ما تزال تقوم بوظائفها العجيبة قياماً هو في ذاته عجيبة وأي عجيبة.
ولو أنه استطاع أن يصرف فكره عن عضوه الموجوع إلى أعضائه السليمة لأذهله ما فيها من صحة ودقة وانسجام عما في العضو الوجيع من شذوذ والتواء. ولكنه لا يستطيع.
والعالم العربي اليوم مصاب في عضو من أعضائه الرئيسية وهو يئن من الألم ويصيح، وينتفض ويتلوى ويحرق أسنانه ولا يطيب له شيء مثلما يطيب له التحدث عن أوجاعه، فهو يشكوها بألسنته وأقلامه، في الصحف وبالمذياع، في المدارس والمعابد، في البيوت والأسواق وعلى قوارع الطرق. يشكوها ليل نهار، وشكواه قد انتشرت غيوماً دكناً في جوه البديع، وانسدلت سحباً سوداً على عينيه، وتربعت هموماً ثقيلة في قلبه. حتى بات لا يحس من جسده غير عضوه الوجيع، ولا يسمع من أصوات الكون غير صوت النعي، ولا يبصر من ألوانه غير لون الحداد. فكأن الشمس والقمر والنجوم في مأتم دائم، وكأن الهواء نفثات مصدور، وكأن الأرض مقبرة عقمها الموت فلا حياة في رحمها ولا لبن في ضرعها. وكأن الله الذي ما سفر عن وجهه الكريم في أية بقعة من بقاع الأرض إلى حد ما فعل في هذه البقعة، قد انتحى من الكون ناحية قاصية. فلا نحن منه ولا هو منا في شيء.
لا عجب أن تدمي قلوبنا لفلسطين الدامية، وأن نتألم لآلامها. ولكن العجب كل العجب والألم كل الألم في أن الإنسان ما اهتدى حتى اليوم إلى حبر يسطر به تاريخه غير الدم. وفلسطين أبلغ شاهد على ذلك.
فتاريخها منذ عهدنا بالتاريخ صفحات وفصول ومجلدات تنضح بالدم البشري.
فما أظن أن بقعة من الأرض جبل ترابها بالدم إلى حد ما جبل به تراب فلسطين. وها هو العالم، عالم الإنسان، لا يكاد يخرج من بحر أحمر حتى يغوص في آخر. أما ترون أن الناس - حتى في الفترات التي يدعونها سلماً ـ ينامون محاربين ويقومون محاربين؟ فالحرب ملء أفواههم وأجفانهم، وملء قلوبهم وأفكارهم. بها يتنادمون ويتسامرون، ولها يعملون ويستعدون، وعلى مذابحها يتهافتون ويستشهدون، وبعجلاتها يتعلقون وينسحقون.
لقد بلغنا زماناً حربه حرب وسلمه حرب كذلك.
أما النصر فيه فلن يكون للمكر والدهاء، ولا للدبابة والطيارة، ولا للقنابل الصاروخية والذرية، ولا للغازات الخانقة والجراثيم المميتة. لا، ولا للمال ولا للرجال. بل لقوة نذكرها كلنا بشفاهنا في حالة الصفو والهناء ونطردها من قلوبنا في الصعاب والملمات، وأعني قوة الحق.
لئن ضاع معنى الحق على الناس في سائر أقطار الأرض فمن الحيف أن يضيع علينا في هذا الشرق الذي كان أول من بشر العالم بالحق.
لئن تخيل غيرنا أن الحق لا يكون إلا في الاستمتاع والمتاع فمن العار علينا، ونحن ورثة ثلاث من أسمى وأبدع الديانات في الأرض، ألا نعرف أن الحق ميزان يستحيل أن يطرأ عليه أقل خلل، ونظام لا يتبدل ولا يتحول قيد شعرة، وأن الألم نتيجة لازمة للانحراف عن الحق، وأن حياة الإنسان على الأرض حياة درس وتجربة وامتحان غايتها الوصول بنا إلى معرفة الحق، كيما نتحرر به من الألم.
فنحن ما دمنا رهناء للألم دامت معرفتنا للحق ناقصة، ودمنا عالة على الحق. فما كان لنا أن نتوهم أن في استطاعتنا أن نسوس أنفسنا والكون، ولا أن ننسى أن وراء إرادتنا إرادة الكون وفوق قدرتنا قدرة الحق. وإذ ذاك فمن الخير لنا كلما قامت في حياتنا مشكلة أن نتفحصها على ضوء إيماننا بالحق.
فنحن لو تفحصناها بنور الحق لوجدنا أننا المسؤولون عنها قبل سوانا، وأن علينا أن نلوم أنفسنا قبل أن نلوم الغير. إن محنة فلسطين هي امتحان لنا أولا وللعالم بأجمعه ثانياً. وهو امتحان قاس وصارم من غير شك. وليس من العزة أو الكرامة أو الحكمة في شيء أن نتوهمه الامتحان الأول والأخير أو الامتحان الأكبر والأهم. فنفتح أبواب قلوبنا للذعر والقلق، زاعمين أننا إن لم نجتز الامتحان ظافرين فقد خسرنا حقنا في الحياة ورسبنا في أعماق لا خروج منها إلى الأبد.
1966*
* كاتب وأديب لبناني «1889 - 1988».