بكل بساطة.. يعني ذلك أننا نكذب وأننا بلا أمانة، نكذب لأننا ندعي معرفة قضايا لا نعرفها، ونخون أمانتنا الثقافية، لأننا نضع بين يدي القارئ كلمات غير موثوق بها، ومعلومات ربما كانت مضللة، أو في أحسن الأحوال لا تشكل أساساً لثقافة صحيحة.
وهذا الحكم، لا يهمنا فيه معناه الأخلاقي في حدوده الفردية، بقدر ما تهمنا انعكاساته على مجتمعنا بشكل عام، وعلى ثقافتنا بشكل خاص.
فما لا شك فيه أن عدم احترام الكاتب لمادته، واستهتاره في تقصي جوانبها، والتدقيق بمعطياتها، لا يشف فقط عن خـواء هذا الكاتب ورخص علاقته بالكلمة، عن تنطعه وكسله العقلي، بل يتجاوز ذلك إلى تأثيرات سلبية على جمهور القراء، وعلى البيئة التي يمارس فيها هذا الكاتب نشاطه، ولهذا فإننا لا نستطيع التظاهر باللامبالاة، ولا نستطيع أن نكتفي بهز الرأس، وتمتمة هذه الكلمة المتعبة «فوت.. ليست أول مرة، ولن تكون آخر مرة».
فعلا ليست أول مرة، ولن تكون الأخيرة، إلا أننا ـ كقراء على الأقل ـ ينبغي أن ندافع عن أنفسنا أمام مثل هذه الظواهر، هناك كتاب يغشوننا، ويغرسون في أذهاننا أرباع حقائق وجملا إنشائية ومعلومات غير موثوقة، وبالتالي فإنهم يكونون، وبأصابع لا ترتعش، جيلا من السطحيين ومن الرؤوس التي تطن بالفراغ، وتعوزها الثقافة العميقة السليمة، غش صريح، لا تظلل وقاحته أقنعة أو ألوان... ويكشف عن عدم إحساس هؤلاء الكتـاب بأيـة مسؤولية تجاه القارىء وتجاه مجتمعهم، يأخذون كل شيء بصورة مجانية، ونادراً مـا يقلقهم السؤال عن دورهم ككتـاب مسؤولين ومسؤولياتهم جسيمة، وهم بذلك يدورون بالحلقة المفرغة التي تدوم فيهـا الثقـافـة في البلدان المتخلفة، المناخ المتخلف ينتج فكراً متخلفاً وسطحياً، ثم ينعكس هذا الفكر على المناخ نفسه فيرسخ تخلفه.
قد يبدو أننا نتطرف في الاستنتاج انطلاقاً من حادثة صغيرة.. ولكن في الواقع ليست هذه الحادثة إلا نموذجاً لحوادث كثيرة، ودلالاتها ذات أهمية بالغة بالنسبة لنا، لأنها على الأقل تفسر هذا السيل من التفاهة والمغالطات، الذي تغص به صحف كـل صبـاح ومجلاته.
ويكفي التذكير بأن هذه الصحف والمجلات هي النافذة الأساسية لأجيالنا على المعرفة، وتعمق شؤون الحياة والعـالم، حتى نعلم مـدى خـطـورة «اللامسؤولية والمجانية والسطحية» التي تقدم بها تيارات المعرفة هذه.
إن الكاتب الذي يمتلك الشجاعة للخوض في قضايا، لا يعرف عنها إلا السطحي والهامشي، هو صورة نموذجية للمضلل الثقافي، وإنه ليستمد جرأته من جهله، وثقته من ضحالة تكوينه. فهو على الأقل لا يعـرف هاجس الشعور بالجهل، وينبغي أن يتعلم كثيراً حتى يعـرف المغزى العميق لعبـارة عامية كهذه «كلما ازددت معرفة، ازددت شعوراً بالجهل، وحاجة إلى مزيد من المعرفة...».
ولكن يبدو أن البعض من كتـابنـا ـ وحتى الـرصـينين منهم ـ ينظر إلى الكتابة على أنها ثمرة معرفة مثابرة، ونزاهة داخلية، أو على أنها مسؤوليـة تنبني بها المجتمعات والمستقبل، بل على أنها إلهام سحري يفيض على الورق معلومات وثيقة في الأدب وتياراته، في الاقتصاد والسياسية، في التـاريـخ والفلسفة، وربما في علم الإحصاء أيضا.
والمخـزي في الأمر أن هؤلاء الكتاب الرصينين هم أول الغاضبين من واقعنا، وهم أول الذين يتأففون من تخلفنا، وتفاهة الإنسان في بلادنا، ويتحدثون الساعات الطوال عن حاجتنا إلى العقل العلمي، والأجيال الـواعـيـة المثقفة، ولكن حين يمسكـون القلم ليكتبـوا يبدو أن أكـثر مـا يلح على أذهـانهـم هـو حسـاب البقال، وقسط الثلاجـة، وقبـل ذلـك حـروف أسمائهم المطبوعة تحت عناوين رنانة.
1970*
* مسرحي وكاتب سوري «1941 - 1997»