أما مدرسة الفقهاء فإنهم يذهبون في تقسيمهم للنص إلى رؤية أُخرى، فهم ينظرون للفظ من حيث دلالته إلى أنه ظاهر ونص ومجمل ومفسر. أما اللفظ من حيث إبهامه، فيقسمونه إلى مجمل ومتشابه وخفي ومشكل.
وما هذه التقسيمات من علماء الفنون إلا لتسهيل العلوم على من يأتي من بعدهم كي يجدوا فنونًا وعلومًا ميسرة كي يفقهوا مسارات ومقاصد المعرفة ليكملوا المسيرة الإنسانية في هذه الحياة التي هي نصب وكبد. بيد أن العلم والمعرفة هما الطريق الحقيقي لرفع كاهل تلك الأثقال عن هذا الإنسان المسكين كي ينعم بحياة مطمئنة. إلا أننا نجد هذا الإنسان نفسه من يُعادي طريق العلم والمعرفة بشتى الوسائل والطرق، فتارة يُعادي طرق العلم والمعرفة بالإعراض عنها وإهمالها وعدم مدارستها أو النظر فيها، وتارةً باقتحام علومها دون دراية أو تأسيس علمي ومعرفي رصين، فتضطرب الرؤى والتأملات لديه، فيخبط خبط حاطب ليل، فلا يرى النور ويمشي في العتمة، فيضل ويُضل، وهذا خطره كبير على الناشئة وأغرار المجتمعات الإنسانية من أصحاب أحداث الأسنان.
وهذا الصنف كانوا هم المدخل لجميع تيارات جماعات التكفير والجهاد المسلح. ولقد كنا شهودًا على هذه الفئة حيث كان تكفير البشر من أبسط وأسهل العبارات لدى هذه الفئة، بل إن التكفير كان بالجملة، فكانوا يعتقدون ثم يستدلون. وهذا المسار من أخطر المسارات في التفكير حيث إنه يُغلق على عقل صاحبه فلا يكاد يهتدي إلى ساحات العقول المفكرة والناقدة بإحاطته لعقله بسياجات التقديس المزعوم، فهم يأخذون من العلم مسحةً ثم يجعلون تلك المسحة وكأنها بحار متلاطمة وفي عمقها العلوم، وهي في حقيقتها سراب ليس له أساس يحسبه الظمآن ماءً!!.
هناك صنف وهم أنصاف المتعلمين الذين لديهم تخصصات في غير التخصصات اللغوية والشرعية، بيد أنهم يمارسون هواياتهم المفضلة في اقتحام تلك العلوم، وهذه الفئة هي سبب هذا المقال حيث إنني استمعت وشاهدت مقطعًا مصورًا لأحد الأكاديميين من غير المختصين في العلوم اللغوية والعربية والشرعية، فكان يسخر من الأكاديميين الذين قدموا رسائل أكاديمية «دكتوراه وماجستير»، في «ليس وأين» ترد في اللغة العربية، وأمضوا ثلاث سنوات في إعداد أطروحاتهم، وأن التطورات قد تجاوزت هؤلاء الأكاديميين. وهذا القول فيه تجنٍ واضح وتجاوز لحدود اللباقة مع أهل العلم والمعرفة، وهو في حقيقته كذب صراح، فلا توجد رسائل وأطروحات علمية ليس فقط فيما علمته من استقراء لكثير من المكتبات، ولعل هذا القائل سمع بكتاب «ليس في كلام العرب» للإمام اللغوي الحسين بن أحمد بن خالويه، وهو كتاب في حقيقته لا يبحث في الفعل الناقص ليس -الذي هو من أخوات كان الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر- بل هو كتاب يبحث عما لم يرد في كلام العرب من العبارات والألفاظ، وهو عمل عظيم في تنقية أصول العربية مما شابها. وما قاله آنف الذكر جهل مطبق بمؤلفات اللغة وحقائقها، وكان بإمكانه أن يسخر مما يسخر منه بعيدًا عن العربية وعلوم الشريعة وأهلها، فلا يمكن أن ينال مبتغاه في التطور والتقدم، إذا مارس السخرية على الثروة الثقافية التي تحتضنها علوم العربية والشريعة.