لقد كان لتلك الحرب الرهيبة بصمات قد لا يُفلح الزمن المتراكم في طمس معالمها، وكان لها هزّات وارتدادات عميقة على عرش الجغرافيا السياسية ومن أوسع الأبواب، تموضعت فيها الدول والأحلاف والمصالح والرؤى فوق شطرنج الأزمة بمنتهى الاستقطاب، فدول تتحدى الغرب وتقف سرًا وعلانية في خندق الكرملين الحصين، منها من يجود بنصرته الاقتصادية، ومنها من ينتظر إشارة الانخراط العسكريّ المباشر، ودول تهرول على الأقدام والأكواع لنجدة كييف عسكريًا واقتصاديًا بخيراتِ مخازنها وترساناتها وخزائنها، ودول تريد اقتناص اللحظة وخطف استحقاقات هذا الحال، بطلب انضمامها للناتو الذي تراه سيحفظ ترابها وهيبتها، ودول لبست ربطات أعناقها واكتست ببدلاتها السياسية والدبلوماسية؛ لتعزز مكانتها الإقليمية وتعظّم مكاسبها التفاوضية ضمن ازدواجية رعاة السلام وتجار الحروب، أما البقية فقد لزموا مواضعهم وأغلقوا نصف عيونهم، كون اللعبة أطول من قاماتهم وأضخم من حجومهم وأكبر من طاقاتهم، إلا أن ذلك الليل الحالك والتيار الجارف، لم يخف أو ينل من دولةٍ غلّبت العقل في زمن الجنون، ورجّحت المنطق رغم حالة الانفلات والانزلاق، تلك هي دولة المجر وبمنتهى الامتياز.
لم تختلف المجر عن الكثير من الدول التي كان لها تاريخ طويل من التحالف ثم التوتر مع الاتحاد السوفيتي السابق، لكن الرئيس فيكتور أوربان وظّف البصر والبصيرة في تناول الملف الروسي الأوكراني الحاضر فوق طاولته، ورغم مواجهته لضغوط كبيرة وحوافز مشجعة حتى ينحاز بين موسكو والغرب، إلا أن الرجل قد اختار أن يدير بوصلةَ بلده نحو شاطئ الأمان وأقل الخسائر، وفي الوقت الذي أدان فيه العمل العسكري الروسي على الأراضي الأوكرانية، فقد عقد العزم على أن يغّرد خارج سرب العقوبات الأوروبية والأمريكية على موسكو، ورفَضَ المساعدة المباشرة وغير المباشرة في تسليح كييف ضد خصمها القادم من الشرق، وأعطى الأولوية لاستمرار تدفق الحياة في شرايين الطاقة نحو بلاده، معتبرًا أن حظر صادرات النفط الروسية بمثابة إلقاء «قنبلة ذرية» على الاقتصاد المجري في هذا الظرف المعقد.
قد ينظر الكثيرون إلى الموقف المجريّ بنظرة سلبية ضيقة، كونه اختار الحياد في واقعٍ لا ينفع فيه الحياد حسب رأيهم، وأمسك بمقبض عدم الانحياز بينما نحن في عصر ضرورة الانحياز والاختيار الواضح، وأنه قد قدّم مصلحة شعبه على حزمة المبادئ والأعراف الدولية، لكن هل يكون البديل في جلب الخراب إلى بودابست وإغراقها في مستنقعات الحروب الباردة والساخنة، وهل المطلوب أن تضاف معاناة المجريين إلى ما يكابده جيرانهم وأقرانهم، أم أن إطفاء الحروب ولجم الصراعات لا يراه البعض إلا بصبّ المزيدِ والمزيدِ من الزيت على النار!