كل عاقل في هذا الكون الفسيح، يُدرك دون أدنى شك أن أي دولة لا تُراعي لقمة عيش إنسانها وأمنه، فهي لا تستحق أن تتصف بأدنى من مجزرة، ينتظر فيها «الخرفان» التوقيت المناسب لأن يكونوا تحت المقصلة. وباعتباري عدوًا لما يسمى «ديمقراطية»، ولا أخشى من إعلان ذلك، فأرى أن عددًا من الدول العربية لا تملك من هذا الشعار سوى كذبته الكبرى، القائمة على فسح المجال للشعب للمشاركة في السلطة، وهذا خداعٌ كبير، والحقيقة هي فتح الأبواب على مصراعيها أمام مزيد من الفاسدين لحكم أكوام من المستضعفين.
ولنا في التجربة اللبنانية «الديمقراطية»، خير دليل على زيف هذا الشكل من النظام السياسي، وهي –أي لبنان– للتو قد فرغت من انتخاباتٍ برلمانية، تعتبر الأولى التي تمر على البلاد بعد مرحلة من الكساد السياسي والأحداث التي حلّت بها مؤخرًا؛ إذ شهدت البلاد اضطرابات أمنية غداة إعلان نتائج الانتخابات، سبقها إقدام حزب الله على مهاجمة الناخبين في زحلة، بعد أن هتفوا ضد خامنئي والرئيس الإيراني، ولا عجب في ذلك إن كنت في لبنان، وهذه الصورة تترجم الفرص التي تمنحها الديمقراطية لميليشيا متطرفة كحزب الله؛ ما انعكس على فقدان هيبة الدولة.
ولك أن تتخيل يا صديقي، أنه في لبنان يعمل كل شيء؛ الفرّان الذي يبيع ربطة الخبز على الإنسان، بأسعار تبدأ من ستة آلاف وحتى ثلاثة عشر ألف ليرة، وحتى العامل في المصرف الذي خرج من بين يديه إعلان إفلاس الدولة، وسائق التاكسي، وذلك الذي يملأ له وقوده منذ ساعات الفجر الأولى للبحث عن قوت يومه، وحتى زعران حارة حريكان يعملون على وقع عقرب الدقائق والثواني، لحماية معاقل أصحاب الرأي القادم من طهران.
سيدةٌ جميلة أعرفها منذ سنين؛ تذهب للعمل باكرًا، دون أن تتقاضى أجرًا منذ قرابة عام أو عامين،هي صحافية وليست في مكانٍ آخر، حتى لا ينقاد أحد لأفكارٍ غير صالحة،واستغفر الله عن ذلك، وحتى سيد نعوش الموت الجاهزة لحمل أي إنسان.
أريد أن أقول بالمختصر، لألج إلى قصتي هذا الأسبوع، كل شيء في لبنان يعمل؛ عدا الدولة، هذا إن تبقى دولة، اسمها لبنان.
وفي حقيقة الأمر؛ فقد أثار حفيظتي وحفيظة كل شخص مهتم أو متابع لملف هذه البقعة الجميلة من العالم العربي – قبل أن تتحول إلى فارسي– أن شريحةً لا يُستهان بها من اللبنانيين، أصبحوا كالمغلوب على أمرهم، والمؤمنون بالفشل، وبات جُلّ همهم البحث عن نافذة أمل، تنقل البلاد التي أصبحت كمزرعةٍ يتسيد بها القوي على الضعيف، ومن يملك السلاح على غيره، من حالٍ إلى آخر، وتضع حدًا للتجاذبات السياسية التي تعيشها الدولة.
ويقابل أولئك الباحثون عن فرص الأمل، عددًا من المُنزعجين من انكشاف حقيقتهم، وبات يؤذيهم الجلوس وقتًا أكثر مما مضى على كراسيهم. ولا أستثني أحدًا في هذا الجانب، لا سيما من كرسوا الجهد لتهيئة المناخ المناسب لتصبح اليد الإيرانية واضحة، وقد دخلت من باب الدولة المفتوح على مصراعيه بأمرٍ من صاحب الأمر، بعد أن استطاع إلغاء كل شيء يتعلق بالمواطنة، على حساب المذهبية والطائفية والتطرف.
أتصور أن نتائج الانتخابات البرلمانية من شأنها أن تزيح الستار عن حجم الخلل الذي تعيشه الدولة، وبرأيي أن رضى بعض من الشعب اللبناني بالمشاركة في عملية الاقتراع، ليس إيمانًا ببرامج انتخابية، إنما بحثًا عن بصيص أمل في تغييرٍ قد يأتي فجأة؛ فيما تقوم دوافع البعض الآخر على حالة اليأس التي تسيطر على الحالة العامة للبلاد، أو الخوف من سلاح طهران؛ أو أن تكون شريحة من اللبنانيين قد أصبحت عناصر فاعلة في مقامراتٍ سياسية، دخلها الزعماء والساسة، كمن يُراهن على سباق خيل، للحصول على المركز الأخير وليس الأول.
يمكن القول بنهاية الأمر، إن أي دولة يقوم أحد أطرافها بالاستقواء على الآخر، إما بالخارج، أو بالسلاح السائب، أو بتعطيل الحياة المنتظر أن يُقدم عليه حزب الله والمتحالفون معه خلال الفترة المقبلة بعد نتائج الانتخابات البرلمانية، في مشهد يعيد للأذهان انقلاب الحزب الذي أوصل ميشال عون لسدة الحكم في 2016، لن يُجدي معها لا ديمقراطية ولا أي نظامٍ سياسي آخر، كونها في الأصل ليست دولة، إنما مساحة يجتمع عليها كثير من المتعطشين لجثامين القتلى، ورائحة الدم والبارود.
ولبنان يتوفر به كل هذه العوامل، المبنية على وجود السياسي الفاسد، والمُعتّد بالخارج، وحامل السلاح الخارج عن سيطرة الدولة، والمجال مفتوح ليصبوا أحقادهم كالجمر على رؤوس اللبنانيين، ووحدهم بكل أسى من سيحترقون.
إن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيما تبقى من كيانٍ اسمه لبنان، لن تستوي قبل القضاء على كل أشكال التدخل الإيراني، ومن ثم الزج بجميع الفاسدين في أقفاص الاتهام للعمل على محاسبتهم، بل وقتلهم؛ وعلى رأسهم حتمًا سماحة السيد حسن نصر الله؛ أبا هادي؛ أبا الشهداء، وعرّاب المناضلين، باعتباره أول من عمل على نسف أحجار الفسيفساء التي شكلت تلك الدولة، وحولها إلى جزء لا يتجزأ من ولاية الفقيه؛ وإلا فعلى عروبة لبنان السلام.
عن نفسي، لن أستغرب يومًا أن يصبح لبنان رسميًا وعلى الخرائط، أحد البقاع الإيرانية؛ وفق قماشةٍ سياسية تتناسب مع الربيب، وسيده في طهران.
وقتها لن يبقى للشرفاء..
سوى الذكريات البائسة.
وصور طوابير الجوعى.
والكثير من ملح الدموع.
وملايين النعوش.