في عام 1962 جئت إلى دمشق طالبا في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة، كنت حتى ذلك الحين أكتب قصائد كلاسيكية في هجاء بعض رجال الدين وبعض المطامر الاجتماعية في الجامعة، ذلك العام الدراسي 1926– 1963 التقيت بعلي كنعان، وكنا في صف واحد، كان أكبر مني، لكنه لأسباب صحية قد تأخر في دراسته والتقيناه، كان علي كنعان يومهـا أهم اسم شعري في الجامعة وخارجها، وكان مع خليل خوري شاعرا دمشق المبرزين، أما علي الجندي فلم يكن يومهـا يثير اهتماما كبيرا، وكانت أهمية على كنمان مقرونة بأنه ينشر في الصفحات الأولى من الآداب، وكان هذا امتيازا باهرا لمجموعة من الشباب الذين يكتبون الشعر ويحلمون أن ينشروا في الآداب.

لم أكن يومها أعرف من شعراء العربية بعد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم إلا نزار قباني وشعراء المهجـر وبدوي الجبل، كانت بيئتي لا تقدم لي إلا المصادر الكلاسيكية من التراث، واستطعت أن أكتشف أن نزار قباني يكتب شعرا على الشكل الحديث، لكنه موزون، هناك تفعيلة، فما هذا الذي تكتبه ياعلي كنعان؟

قال: شعر، قلت: موزون؟، قال: نعم. تحديته ببجاحة وحاورني بهدوئه المعهود، وجلسنا في بوفيه الجامعة وبين أيدينا مجلة الآداب لكي نقطع قصيدته «بابا نويل والموتى» وكانت القصيدة موزونة».


استعرت المجلة من علي كنعان وقرأتها، ومنذ ذلك اليوم أصابني ما يشبه الجـرب، نحك ونحك ونحس بحاجة إلى المزيد من الحك. بدأنا ننتظر الآداب لقراءتها وبدأت أعود إلى البسطات ومكتبات الأصدقاء، لقراءة الأعداد القديمة والنقد والردود والمساجلات.. ثـم الدواوين التي تنشرها دار الآداب وكتب النقد، وتعرفت على رواد حركة الشعر الحديث ووجهات النظر النقدية ومعاركهم مع اخصامهم.

كانت الآداب في ذلك الحين منهلنا الثقافي الهام. وكنا نقرأ مجلة شعر أيضا، غير أن عواطفنا القومية ومبادئنا السياسية كانت تجعلنا أكثر ميلا للآداب واهتماما بها.

وحتى ذلك الحين لم أكن قد كتبت أية قصيدة حديثة. وذات يوم كنت أدرس وحدي في شرفة الغرفة التي أستأجرها، وكانت هناك قناة تدرس في غرفة مجاورة، ولم أكن أرى منها إلا ظلها الذي يروح ويجيء على الجانب الآخر من الشارع، كنت مستمتعا بمراقبة ظلها وحين أطفات الضوء للنوم بقيت وحدي دون ظل.. أحسست بالوحشة والفراغ ثم أحسست بتفاهتي، أجلس هنا لأرقب ظل فتاة وأنا في دمشق، ثم أحسست بفقري وبأنني لا أملك شيئا من هذه المدينة. مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، وجلست أكتب.

وجاءت قصيدة على الشكل الحديث، وكان من المستحيل أن تأتي إلا على الشكل الحديث طالما أنني ممتلئ بهذه الأحاسيس الصعبة. في الصباح راجعتها قليلا ثم طرت إلى علي كتعان قرأها بهدوء، أعجبه فيها بعض الأشياء وانتقد فيها أشياء أخرى. فسرت نقده لحظتها بأنه غيرة من إبداعي، وقلت لنفسي: لماذا ينجح هذا العلي كنعان، نحن ندرس الأدب الإنجليزي معا، وهو، كطالب ليس أفضل مني، وأنا اطالع بنهم مرضي، الأنه ينشر في الآداب، وحق ديني لا بد ان انشر في الآداب، وسانشر هذه القصيدة ذاتهـا.

ولكنني بعد أن عدت الى البيت شككت بقيمة القصيدة واحتفظت بها في دفتري. وظللت وعلي كنعان صديقين حميمين، ندرس معا ونسهر معا ونتناقش ونتدين ونجوع، وتعززت علاقتنا ونسيت التحدي الذي كان بيني وبين نفسي في ان انشر في الآداب، كنا مسحوقين تحت وطأة هموم كبيرة علينا وتبدا من ورطة تأمين النوطة أو شرب القهوة في البوفيه إلى التفكير بالفلاحين وفلسطين.

في أواخر العام الدراسي كتبت قصيدة ما ازال احبها حتى الآن، وكانت مناجاة لعلي كنعان تحكي معاناة شابين ريفيين فقيرين في دمشق وفي الجامعة، كانت بعنوان «غريبان» غافلت صدیقی وارسلتها للآداب لأول مرة، وكانت مهداة اليه.

و فوجئت في الشهر التالي انها منشورة، كانت فرحتي كبيرة، وفوجيء علي، فوجيء اني اهديتها اليه وانها منشورة في الآداب، وفوجيء زملاؤنا في الجامعة.. ولكن بعضهم همس - سهیل ادریس نشرها لأنها مهداة الى علي كنعان- کابرت وناقشت. ولكنني بيني وبين نفسي وبعد ان قال لي علي كنعان ان القصيدة تحتاج الى اعادة نظر، قدرت أن هذا قد يكون صحيحا، وانتظرت العدد القادم لأقرا النقد.

كان ناقد العدد محي الدين صبحي، انهال على القصيدة بشتم مقذع ومسح بها الارض، ولكنني رغم ذلك سررت لانه، على الرغم من شتائمه، قال انها نصيده تمس شغاف القلب.

1977*

* شاعر ومسرحي ومترجم سوري " 1941 - 2004".