منذ طفولتي البعيدة، وقد أخذني سحر القص إلى عوالمه الممتعة.. لا أعرف لماذا بدأت رحلتي مع الكتّاب بالرواية على وجه الخصوص؟

مؤكد أنني كنت أعرف الشعر في صباي البعيد، وكنت أحفظ بعض قصائد الشعر التي كنت أدرسها في المدرسة، وكان الأستاذ أحمد شلبي أستاذ اللغة العربية، في مدرسة الأقباط، هو أول من جذبني إلى عالم الشعر، سواء بقراءته التي كنت أراها بالغة العذوبة، في ذلك الزمان، لقصائد الشعر وتعليقه عليها. وأظنه كان شاعرًا ومتذوقًا للشعر، حفيًا به، بارعًا في إنشاده، وتنغيم صوته، وقت الإنشاد.

ومن المؤكد أن إنشاده كان يدفعني إلى التأثر بما ينشد، أو يقرأ، وكنت، في مطلع الصباح، أحفظ على الفور ما اهتز لسماعه، ومع ذلك لم يكن الشعر هو مجال إبحاري الأول في عالم القراءة، فقد سرقتني دنيا القص من الشعر، ودفعت بي إلى عوالمها الساحرة.


وربما كان ذلك بتأثير ما قرأته منذ عهد باكر جدًا، سواء القص الديني الذي طالعته في قصص الأنبياء للثعالبي، أو ألف ليلة وليلة، وكلاهما كتابان اشتريتهما من حر مالي، بعد أن ادخرت من مصروفي الخاص ما أتاح لي شراءهما، وكان من اليسير أن أفرغ من كتاب الثعالبي الذي أذكر أنه كان في جزء واحد، يسهل على من كان مثلي أن يلتهمه في يومين على وجه التقريب، مزيحًا كتب المدرسة جانبًا، خصوصًا الكتب غير الأدبية التي لم تكن تغوي بالقراءة، شكلًا ومضمونًا، وربما كان الحس الديني المبكر هو الذي دفعني إلى البدء بالثعالبي، والاتحاد الوجداني مع قصص الأنبياء، خصوصًا ما كانت تتضمنه من خوارق ومعجزات، وشخصيات نقية كالملائكة، مقابل شخصيات مناقضة كأنها الشياطين التي تتقمص صور البشر، وما إن انتهيت من الثعالبي حتى هرعت إلى ألف ليلة وليلة، بأجزائه الأربعة التي عرفت فيما بعد، وبعد أن تعمّقت في دراسة الطبعات القديمة لألف ليلة، أن طبعتها الأولى في المطبعة الأميرية التي أنشأها محمد علي في بولاق كانت في مجلدين فحسب، راجعهما وذيّل الجزء الثاني منهما الشيخ عبدالرحمن الصفتي الذي كان أحد علماء الأزهر البارزين، ومر أكثر من عقدين من الزمان نفدت فيهما طبعة الشيخ عبدالرحمن الصفتي، وكان لا بد من طبعة جديدة تولاها وأشرف على تصحيحها الشيخ قطة العدوي الذي أخرج حكايات الليالي في أربعة أجزاء، هي الأجزاء التي لا تزال أكثر تداولًا إلى اليوم، والتي لا تزال تصدرها المطابع المتخصصة في هذا النوع من المأثور الشعبي الذي يجمع، إلى جانب الليالي، السير والملاحم المختلفة، وغيرها من السرديات التي نجدها في المطابع والمكتبات القديمة التي لا تزال قائمة في حي الحسين والأزهر، مثل مكتبة صبيح والحلبي وغيرهما من المكتبات الأحدث التي تعوّدت الذهاب إليها في المرحلة الجامعية، وكان في صحبتي، دائمًا، الشيخ رمضان، رفيق مجموعة أصدقاء المحلة الكبرى التي وصلت بينها -إلى الآن- محبة الكتاب التي قادت إلى محبة الأدب.

2001*

* ناقد وأكاديمي مصري «1944-2021».