لمراتٍ؛ رصدتُ كتابات لبعض الزملاء، وهم يستبشرون بأن طلابنا المبتعثين سيحدثون انقلاباً فكرياً ومجتمعياً حال عودتهم، متكئين على أسباب عديدة على رأيهم، وأتصور ضرورة طرح هذا الموضوع ودراسته بشكل أكاديمي صرف، عبر أطروحات دراسات عليا ومراكز بحوث، تستشرف التأثيرات المتوقعة لأبنائنا المبتعثين على مجتمعنا، وأعتقد أنه من السذاجة بمكان تصوّر ألا يغيّر هؤلاء شيئاً في أنماط التفكير والمعيشة الحياتية لدينا؛ فقراءة فاحصة للتاريخ تشي بأثر هؤلاء في كل مجتمعات العالم.
في كتاب "نهضة مصر" لأنور عبدالملك، يرصد المؤلف أن محمد علي باشا اعتمد في تجربته لبناء دولة مصرية حديثة على سياسة إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فكانت هذه البعثات من العوامل المهمة في الانفتاح على الغرب وثقافته، ويؤرخ لحركة الابتعاث في عام 1813م، عبر إرسال مجموعة من الطلاب المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن، وتعلم الهندسة، مضيفاً أنه "منذ عام 1826م، بدأت حركة الابتعاث إلى فرنسا، وخلال الفترة من 1813-1847م، تم إيفاد 339 مبعوثاً إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث المصرية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين".
ما يهمني هنا هو ما قاله المؤلف بأثر هؤلاء عندما عادوا لمصر: "فبعد عودتهم عملوا في حقول التعليم والجيش والأعمال الهندسية والطب والترجمة. وكان دورهم واضحاً في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية".
هذه البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي باشا لأوروبا؛ اعتبرها بعض المراقبين البداية الحقيقية للتغريب في وجهه الفكري في عالمنا العربي، ولا يختلف أحد على أن الطالب المبتعث سيتأثر بالمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وسيقتبس جملة من القيم التي تسود في تلك البيئات، التي ينعكس بعضها سلوكاً يعيش به، بغضّ النظر عن موافقتها لقيمنا الإسلامية أم مخالفتها، فهذا سلوك إنساني عام، يخضع له كل أناسي الديانات، بل إن الانبهار بالحضارة الغربية - ما اصطلح على تسميته (الصدمة الحضارية) - ربما يقتلع الطالب ليذوب بالكلية في عالم الغرب وقيمه، ويعود منادياً باستحالة أية نهضة للأمة إلا بتقليد الغرب تماماً واعتناق قيمه بالكلية، وهو ما حصل مع طه حسين وسلامة موسى وبقية رموز التنوير المصرية. بل إن الأمر يتكرر، حتى مع طلاب أشربوا الثقافة الإسلامية، وكانت الصدمة الحضارية أقوى مما تحصنوا به، ودونكم رفاعة الطهطاوي (المصري) حين سافر إلى فرنسا في سنة 1825م، وكذلك أحمد خان (الهندي) حين سافر إلى إنجلترا سنة 1870م، رغم أنهما درسا وتشرّبا القيم الإسلامية قبل ذهابهم.
في الفترة الأولى من البعثات لطلابنا السعوديين، تأثر هؤلاء بأجواء القومية التي كانت سائدة، وبعضهم بأفكار اليسار أيضا، فعاد معظم الطلاب بتلك الأفكار- بعضهم في مصر والآخر لاحقاً في الغرب إبّان فورة الناصرية - بل بعضهم انخرط في الملاهي والملذات البعيدة عن قيمنا الإسلامية، وهو ما حصل لمعظم الطلاب العرب من بدايات الابتعاث، فلم تفد الأمة منهم شيئاً، ورصد ذلك المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، وقارن بين طلابنا العرب المبتعثين وطلاب الأمم الأخرى الذين أرسلوا وهم مؤهلون لهدف واحد، حيث قال ابن نبي: "حين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي، كان يذهب ليتعلم التقنية، مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده التلميذ الصيني المتواضع (نسيان هماسين) ليتعلم في مختبر (جوليو كوري) بباريس، وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم، بينما غالب ما يحدث للطالب، الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة، ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي وخمارات الحي اللاتيني، أو النوادي الموجودة بسان جرمان".
في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، انتبه المسؤولون لدينا إلى أهمية متابعة طلابنا في بلاد الغرب، فكانت الدولة ترسل لهم من الدعاة والعلماء والمربين من يتعهدهم هناك، بل حتى سفارتنا تتابع مناشط الطلاب هناك، وتقدم تسهيلات لهم ولزوجاتهم وتذاكر سفر مجانية لحضور الملتقيات التي ترعاها كبريات جامعاتنا هناك، لذلك حافظ أولئكم الطلاب على جلّ القيم، بل أتذكر أن بعض شبابنا كان بعيداً عن الالتزام والمحافظة وقت ابتعاثه، وأمام تلك البرامج الدعوية المركزة؛ وجد نفسه فيها، فانخرط بكليته في فعالياتها، وعاد بروح محافظة، بعيداً عن الأفكار المناوئة للوطن والقيم البعيدة عن الدين.
وأعود للسؤال الأهمّ: هل سيكون حظ هؤلاء الطلاب، أفضل من سابقيهم في تغيير كثير من أنماط تفكيرنا، وقد خبروا في تلك البيئات الغربية كثيراً من قيم السلوك الإنساني، بل مارسوا جملة من مناشط المجتمع المدني، وتشربوا أفكار الحريات والحقوق ومحاربة الفساد وحق التعبير، بل وأكثر من ذلك طبقوا فقه الأقليات – خصوصا الفتاة والمرأة المبتعثة - والذي يختلف إلى حدّ ما عن الفقه المطبّق والسائد في مجتمعنا؟ هذا سؤال يحتاج إلى مراكز بحوث وجامعات لتقوم بالإجابة عليه، لأن القياس برأيي على تجربة جيل (القوميين) في الخمسينيات والستينيات، وعلى تجربة جيل (الإسلاميين) في السبعينيات والثمانينيات، لا تصحّ كثيراً لاختلاف الظروف الزمانية والمكانية بالتأكيد، فزمننا زمن العولمة، وانفتاح الثقافات، وهناك أدواتها كالميديا ووسائل الاتصال الحديثة التي جعلت العالم، ليس قرية صغيرة، بل بيتاً واحداً كبيراً. أما المكان، فلم يعد مجتمعنا هو ذات مجتمع الثمانينيات، فلقد مررنا بتغييرات جذرية بعد 11 سبتمبر، إن كان في الإعلام واتساع هامشه الكبير، أم في التعليم وتطوير مناهجه، أو حتى في أجوائنا الفكرية التي غُرست فيها ثقافة تعددية الرأي وقبول الآخر الطائفي والمذهبي وحتى العقدي.
أتصوّر أن هؤلاء الطلاب سينجحون جداً في بث مفاهيمهم التي تشرّبوها، والمجتمع بات مستعداً لتقبلها، كمفاهيم المساواة والعدالة والديموقراطية وإعادة النظر في دور المرأة في المجتمع والحياة، وستسود ثقافات المحاسبة والمطالبة بالحقوق والشفافية وحرية التعبير ومكافحة الفساد، وهي بالمناسبة ذات ما ينادي به والدنا خادم الحرمين الشريفين في جملة من خطاباته، وهؤلاء أبناؤه هم من سيترجم ذلك فعلياً.
يبقى من الضروري، الانتباه إلى الخشية من ألا تتوقف مطالبات هؤلاء عند هذا الحدّ، وهذا احتمال وارد، في ظل التوقع أن أعدادهم ستصل بعد خمس سنوات إلى 150 ألف طالب وطالبة، وإذا لم يستوعبهم سوق العمل لدينا، فسنكون في إشكال حقيقي ومحنة، وعليه لا بدّ من الدراسة الجادة والعلمية لآثار ما سيحدثه هؤلاء في مجتمعنا.