في مشهد مهيب، ووسط جمع غفير من مشايخ القبائل ووجهاء المجتمع وأعداد كبيرة من المواطنين، ضربت قبيلة «آل شثين آل معجبة يام» بنجران أروع مثل للعفو والتسامح، وقدمت نموذجًا حيا للنخوة والشهامة والمروءة عندما تنازلت عن حقها وأعلنت العفو عن قاتل أحد أبنائها لوجه الله تعالى، ورفضت استلام مقابل مالي ضخم عرض عليهم. القضية التي تعود إلى 18 عامًا مضت مثلت هاجسًا مقلقًا حيث لم تكلّل جهود وضع حلول لها بالنجاح، رغم سعي الكثيرين بالإصلاح، لكن عندما شاءت إرادة الله أن تكتمل تلك الجهود فقد استقبل أولياء الدم خلال الأيام القليلة الماضية عددًا من المشايخ والمواطنين من مختلف مناطق المملكة وأعلنوا العفو والصفح، فارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل والحمد لله تعالى، وسالت دموع الرجال الغالية فرحًا بهذا الموقف التاريخي.

«أعطينا 105 ملايين ريال للتنازل، ولكن ما عند الله خير وأبقى. والله أعطاكم القضية لوجهه تعالى». كلمات صادقة مؤثرة قالها وكيل أولياء الدم، مؤكدًا أن خواطر هؤلاء الكرام الذين سعوا بالخير أغلى من جميع الأموال، وأن رغبتهم في التجاوب مع الجهود الخيرة أقوى من كل تعويض، وهو ما يؤكد حقيقة هذا المجتمع الذي يحرص على تلاحمه وارتباطه ووحدته.

ولم يقف عند ذلك الحد بل ناشد وزارة الداخلية بإطلاق سراح السجين. هكذا تقدم نجران درسًا جديدًا في التمسك بالروابط والصلات الاجتماعية، وتجدد عزمها التصدي لمشكلة المبالغة في قيمة الديات التي ابتليت بها كثير من المجتمعات، بعد أن استطاع بعض الذين يبحثون عن التكسب من معاناة الآخرين إيجاد ثغرات ينفذون منها للحصول على تسويات في قضايا الدماء، وهو ما يؤدي إلى تأجيج الأزمات ومضاعفة المشكلات حتى تصل مبالغ الديات في بعض الأحيان إلى عشرات الملايين من الريالات التي يذهب معظمها إلى جيوب هؤلاء «السماسرة» إن صح التعبير.


تلك المشكلة لم تسلم منها أي منطقة، وانتشرت وأصبحت ظاهرة تسببت في إفلاس العائلات التي يتورط أبناؤها في قضايا القتل حيث تضطر إلى بيع جميع ممتلكاتها ومنازلها، بل وصل الأمر إلى حد طلب الرفدة في بعض الأحيان للإيفاء بالمبالغ المطلوبة لتوفير الديات.

السبب في ذلك يعود إلى وجود بعض فاقدي المروءة من الذين يدعون الصلاح والسعي بين الناس بالخير، بينما هم في الحقيقة مجموعة من الانتهازيين الذين اعتادوا الدخول على خطوط تلك القضايا، والاستفادة من الوضع الحرج الذي يجد فيه البعض أنفسهم عندما يفاجأوا بأن أحد أبنائهم أو إخوتهم أو أقاربهم تورط في قضية قتل. عندها يتظاهر هؤلاء بالرغبة في التوسط لأجل الإصلاح، بينما يتسببون حقيقة في تعميق المشكلة وزيادتها ومضاعفة المبلغ المطلوب.

ورغبة في الحصول على المال بأي وسيلة، فقد كان كثير من هؤلاء يبادر بالاتصال على الميسورين قبل إخراج زكاتهم وصدقاتهم ويطالبونهم بالتبرع لأجل عتق الرقاب، وبذلك يحدث توسع في مصرف واحد من مصارف الزكاة الثمانية التي حددها الله سبحانه وتعالى ورتبها حسب الأولوية، فجعل الفقراء والمساكين في مقدمة المستحقين. كذلك كانوا لم يتحرجوا في إقامة تجمعات ومخيمات لأجل الحصول على التبرعات وطلب العفو، وهو ما يخدش الصور الإيجابية التي تعكس أصالة الشعب السعودي أمام الآخرين، ويقدم فكرة غير صحيحة عنه بأشياء بعيدة تمامًا عن الدين والتقاليد.

ولأن نجران سباقة دائمًا في القضايا الاجتماعية بسبب طبيعة مجتمعها المترابط، فقد بادر مشايخ قبائلها وأعيانها ووجهاء المجتمع والمهتمون بإصلاح ذات البين للجلوس والتشاور، وتوصلوا إلى اتفاق ملزم وقّع عليه الجميع، برعاية وإشراف سمو أمير منطقة نجران الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد وبموجبه تم تحديد مبلغ 5 ملايين ريال كسقف أعلى في حالات الوفاة، ومليون ريال لحالات الإصابات البليغة، ونصف مليون لبقية الإصابات. كان ذلك الاتفاق نقطة تحول تاريخية، فقد وضع حدا للمغالاة وأوقف أدعياء الإصلاح عند حدودهم، وفتح المجال لأهل الخير الحقيقيين، وأكد الالتزام بمبادئ الدين الحنيف الذي يدعو إلى إعلاء قيم التسامح والصفح والعفو عند المقدرة وإصلاح ذات البين، وأعادنا مرة أخرى للتقاليد الراسخة والمبادئ النبيلة التي قام عليها مجتمعنا السعودي الكريم، من مروءة وشهامة ونخوة.

ولأن الاتفاق كان متكاملًا ووافيًا وراعيًا جميع الجوانب المتعلقة بالقضية، فقد استفاد منه مجلس الشورى الموقر عند مناقشة (نظام الصلح في القصاص) الذي تمت التصويت عليه في أواخر شهر رجب الماضي. الآن يعيد مجتمع نجران تسليط الضوء على هذه القضية من جديد، ويقدم مثالًا حيًّا في الإيثار والرغبة في الأجر والثواب.

ولا ننسى كذلك الدور الكبير لمشايخ نجران ووجهائها في إتمام كثير من قضايا العفو وفي مقدمتهم الشيخ علي بن حاسن المكرمي، شيخ شمل قبائل المكارمة، والشيخ محمد بن علي أبوساق، شيخ شمل قبائل آل فاطمة يام، ولجميع الخيرين الذين بذلوا جهودًا في سبيل تغليب التسامح والعفو. وفي الختام أرفع أبلغ عبارات التحية والتقدير لذوي القتيل من آل شثين آل معجبه الذين تغلبوا على أحزانهم، وتجاوزوا مراراتهم، وانتصروا لمروءتهم وأصالتهم وأكرموا ضيوفهم، وقدموا صورة حقيقية لما يحمله المواطن السعودي من نخوة وكرم وإيثار دون انتظار الشكر من أحد أو الثواب سوى من رب المغفرة والجود.