استمرت لعنة الحب الفاشل تطارد الشاعر كامل الشناوي وتعذبه، وكان يعتقد أن الهجر قتله وأنه لم يبق إلا موعد تشييع الجنازة! وكان يجلس يكتب كل يوم عن عذابه، وكان يخيل إلى أنه كان يكتب كل يوم نعيه. وفوجئت به يتردد على المقابر، ولم تكن هذه عادته، وسألته ماذا حدث فابتسم ابتسامة حزينة وقال: أريد أن أتعود على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد.

وقد كتب يصف رحلته إلى المقبرة يقول: «ما أعجب هذه الصحراء، كل شيء فيها يشبه الآخر، الناس متشابهون في حركاتهم والانقباض البادي في مسحات وجوههم، القبور متشابهة، كلها أحجار وطوب وزهور، وماء يبل الثرى، كلها يضم عظاما نخرة... هنا، تحت المقابر تساوت الأعمار، والقيم، الشاب والشيخ، والذكي والغبي، من كان له مثل أعلى في الحياة، ومن غادر الحياة ولم يكن له فيها مثل أو هدف! ووصلت إلى المقبرة التي تعودت أن أزورها في أكثر من مناسبة، ففيها يرقد أحبابي الذين تركوا حياتي وذهبوا إلى حيث سنذهب مثلهم... حاولت أن أبكيهم فتعثرت الدموع في محاجري... حاولت أن أرثيهم فلم تنطق مني إلا كلمات خرساء، ووقفت في خشوع، ثم جثوت فوق التراب الذي ضمهم بالأمس وسيضمني غداً، وحنيت رأسي إجلالا للموت الذي احتواهم بين ذراعيه... بهاتين الذراعين سيحتويني يوما! أيها الموت: أنا لا أخافك.. ولكني لا أفهمك... فمن تكون؟ هل أنت تنزف دماءنا وأعمارنا لتروى ظمأك؟ أم لتروي ظ ب ظمأ الحياة؟ ما أنت يا موت.. وما الحياة؟ يا أسفي على أني أعيش حياتي ولا أعرفها، وألقى الموت دون أن أعرفه! أيتها الصحراء، يا مدينة القبور والموتى! إذا جئت إليك محمولاً في نعش فاستقبليني بروحك الوديعة التي شعرت بها اليوم، عندما جئتك محمولاً في سيارة.

ومات كامل الشناوي... ومضت السنون وقابلت المطربة التي كان يعشقها وقلت لها:


إنني كرهتها طول حياتي منذ قصيدة «لا تكذبي إني رأيتكما معاً»!

قالت: إنني لم أحبه، هو الذي كان يحبني... إنني كنت أحبه كصديق فقط. وطلب مني أن يتزوجني فرفضت لأننا نختلف في كل شيء أنا رقيقة وهو ضخم، أنا صغيرة وهو عجوز، أنا أجد متعة في أن أجلس مع الناس، ومتعته أن يجلس معي وحدي، أنا لا أريد أن يعرف الناس من أحب، وهو يريد أن تعرف الدنيا كلها أنه يحبني!

قلت لها: إن أصدقاءه يعتقدون أنك قتلتيه!

قالت: لا.. إنه هو الذي انتحر!

سألتها: تقصدين أنه انتحر حبا؟

قالت: بل انتحر غيرة!

ولم أصدقها طبعا.

1984*

*كاتب صحفي مصري «1914 - 1997».