البادية خلاف الحاضرة، وجمعها (بـوادي)، وتسمى بداوة بالكسر، والنسبة إليها بداوي، بالفتح والكسر وبدوي أيضا. وهي من بدأ إذا نشأ، أو إذا ظهر وبرز وهو الأرجح لبروز البادية في الليالي والقفار.. والبادية هم سكان الوبر الذين يتبعـون مساقط الغيث ويطلبون الكلا والمرعى لماشيتهم ولا يستقر بهم القرار في مكان معين، إلا في فصل الصيف، حيث يقطنون المناهل ويدنون من المياه، والبادية هي أصل العرب وسكان جزيرتهم الأولون وسفر لغتهم المعتمد، منها تكونت الحواضر وإليها ترجع الأرومات الأصيلة ومنها تفرعت الشـعـوب والقبائل. وهي في الجاهلية رمز العرب، ووجههم الأمثل، وفي الإسلام – كما قال عمر ـ أصل العرب ومادة الإسلام، صريح اللغة وفصيحها مصدره البادية، وعادات العرب الكريمة وتقاليدهم الأصيلة، وميزاتهم الأثيرة.. مصدرها البادية. والشعراء الفطاحلةوالخطباء المصانع والمتكلمون اللسن.. أعلامهم ومبرزوهم من البادية.. لم تفسد الحضارة سحنهم ولم تلن ألسنتهم ولم تغمز لهم صعدة، ولم يلن لهم حد.. يتكلمون بالسليقة والفطرة، فتفتر شفاههم من قول فصل وكلام جزل، وبيان سليم مستقيم.. يصدر من طبع أبي، وخاطر ذكي، ولسان ذرب طلق..

هذه الصفات دفعت بالأمراء والرؤسـاء والخلفاء وعلية القوم، وذواتهم إلى أن يبعثوا بأبنائهم إلى البادية، المدرسة الأولى لتربية أصيلة، لعلـي الشاب.. إلى جانب الرشاقة، وبناء الجسم بناء رياضيا متينا، وتكوينا متكاملا فارها.. تعطيه قوة الشخصية، واستحصاد الرأي، ونفاذ الإرادة، ومصادر الشجاعة والدربة، وسلامة النطق، وقوة العارضة.

قال بعض الأعراب: نحن أمراء الكلام، فينا وشجت عروقه، وعلينا تدلت غصونه، فنحن نجني منها ما احلو وعذب، ونترك ما املولح وخبث.. وقال الجاحظ: ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، في الأسماع، ولا أوتد للطباع، ولا أنتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان.. من كـلام الأعراب الفصحاء العقلاء. ووصفهم الحارث بن كندة أمام كسرى فقـال:


لهم أنفس سخية، وقلوب جرية، وعقول صحيحة، وأنساب صريحة، يمرق الكلام من أفواههم مـــــروق السهم من الرمية، أعذب من الماء، وأرق من الهواء يطعمون الطعام، ويضربون الهام، وعزهم لا يرام، وجارهم لا يضام..

ووصف أحدهم امرأة فقال: كاد الغزال يكونها، لولا ما نقص منه وتم منها. وأوجز أحدهم قصيدة كاملة في جملة مقتضبـة فقال: سبقنا الحي، وفيهم أدوية السقام، فقرأن بالحدق السلام، وخرست الألسن من الكلام.

في هذه البيئة المتأبية، واللغة الصريحة.. تربى سيد العرب عليه السلام، وتربى أعلام الخلافة. وكبراء القادة، ونبلاء المجتمع الإسلامي..

ولم يكـن الوليد بن عبد الملك بن مروان، من ثقفته البادية، وأصلحت لسانه، فكان لحنة، وظل لحنه وصمة عار في تاريخه.

قال أبوه: أضر بالوليد حبنا له حيث لـم نبعثه إلى البادية.

خطب الناس يوم عيد فقرأ في خطبته: يا ليتها كانت القاضية بضم تاء ليت.

فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا الله منك.

ومن البادية أخذ علماء اللغة فصيحها، وتعلموا في اختيار الأفصح، والأبعد عن الحواضر، ومجاورة الأعاجم.. فعنوا عناية فائقة بما دونوه، فاخلصوا لغة العرب في صميمها الذين لـم ترضخ لغتهم عجمة، ولم يخدشها شذوذ، ولــم يداخلها تقصير..

دونوا لغة قريش، وقيس، وتميم ؛ وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض طيء.. وتحاشوا الأخذ من لغة لخم، وجذام، وقضاعة: وغسان، وإياد.. لمجاورتهم أهل الشام.

وكذلـك تحاشوا لغة تغلب، ويمن الجزيرة، وبكر، وعبد القيس، وأزد عمان، وأهل اليمن، وبني حنيفة، وثقيف.. لمجاورة بعضهم للفرس، ولمجاورة الآخرين للأحباش، ولأن بعضهم أهل تجارة، ونقلة، واختلاط بمشبوهي اللغة. فأخلصوها من تلتلة بهراء، ومن طمطمانيـة حمير، ومن كشكشة ربيعة، ومن ككة هوازن، ونخنخة هذيل، ووكم ربيعة، ووهم كلب، وعجعجة قضاعة، وشنشنة اليمن ووتمها، وعجرفة ضبة.. وممن أخذ من البادية، ولقيهم في مرابعهــم ومراتعهم، وسمع منهم: يونس بن حبيب، وخلف الأحمـر، والخليـل بـن أحمـد، وأبـو زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبو عبيدة، والكسائي.. وهؤلاء هم من أول من رحل إلى البادية وأخذ منها، وهم من علماء القرن الثاني.

وكان العلماء في القرن الأول يعتمدون الفطرة، ويرجعون إلى السليقة، ويستأنسون بمن يلقونه من الأعراب، ولما أوغل العلماء في التحقيق، وتأنقـوا في الإحصاء والاستقصاء، وبعدت الحواضر الإسلاميـة من البادية، وداخل لغة البادية المجاورين للحواضر ما داخلها.. بدأ عصر الرحلات؛ ولقيا الأعـراب.

1971*

* أديب وكاتب وصحافي سعودي «1920 - 2011».