يعيش السعوديون في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المبارك الذكرى الخامسة لمبايعة ولي العهد وعراب الرؤية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، هذه اللحظة التي ولد معها فجر جديد يرسم مستقبل هذه البلاد الفتية، ومزيج متجانس ما بين حكمة شيوخها وقادتها بدماء الشباب الوثابة وطموحهم العالي في وصفة فريدة، سرعان ما أتت نتائجها واقعا معاشاً.

لم يمض سوى وقت قصير حتى بدأت ثمار ذلك التحول في الإيناع، وتمثلت في انطلاق التنفيذ الفعلي لرؤية المملكة 2030 التي غيرت نمط الحياة وأوجدت من التحديث والتطوير ما لم يكن يخطر على بال أحد، ولم تستثن جانبا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا إلا وطالته يد الإصلاح ووصلته معاول البناء والتطوير.

وإن كان هناك من ينظر إلى رؤية 2030 على أنها عبارة عن مجموعة من الإجراءات والقرارات اقتصادية واجتماعية وثقافية فقط فإن تلك تبقى نظرة قاصرة تفتقر إلى الشمولية والعمق، فمن أبرز ما تحقق هو تلك الطفرة التشريعية غير المسبوقة التي شهدتها بلادنا خلال السنوات الماضية والتي لا تزال فصولها تتواصل، سعيا وراء الإجادة التامة والتطور المتكامل.


فالقضاء هو المنظم الرئيسي لأحوال الناس ومعاشهم، والقوانين هي التي تضع الحدود الفاصلة ما بين الحقوق والواجبات.

لذلك فإن كل جوانب الحياة ترتبط ارتباطا وثيقا لا فكاك منه بالشق القانوني لأنه هو الذي يمنع حدوث الفوضى ويوقف التجاوزات، وهو ما فطنت إليه القيادة الرشيدة فأولت اهتماما كبيرا بترقية مرفق القضاء لإكسابه القدرة على مواكبة النمو المتسارع الذي تشهده المملكة.

خلال السنوات الماضية شهدت السعودية طفرة تشريعية هائلة، حيث تم تعديل كثير من القوانين لاستكمالها ومراعاة التطورات التي يشهدها العالم من حولنا، كما تم سن قوانين أخرى شملت كافة جوانب الحياة، سواء على المستوى التجاري أو حماية الطفل والأسرة أو حقوق المرأة أو التنفيذ، مع التركيز الشديد على تلك القوانين المتعلقة بمجال حقوق الإنسان.

وقد أدركت وزارة العدل منذ وقت مبكر ضرورة رفع كفاءة الكادر البشري لمسايرة هذه النهضة التشريعية، فاهتمت بزيادة قدرات القضاة والعاملين في الحقل القضائي، لأنهم يمثلون رأس الرمح في أي عملية تطوير، ولا مجال لنجاح أي جهد إذا لم يكن ذلك الكادر مؤهلا لقيادة التغيير نحو أهدافه المنشودة. فتم إنشاء مركز التدريب العدلي لرفع كفاءة القضاة، وإقرار آلية واضحة ومستمرة للمراجعة والتقييم، وتدريب القضاة على أحدث البرامج التقنية المرتبطة بمجال عملهم في إطار توجه الدولة نحو التحول الرقمي الكامل.

وللأمانة والتاريخ أقول إن ما أنجزته المملكة خلال الفترة الماضية وبالأخص خلال الاثني عشر شهراً المنقضية من إصلاحات تشريعية شكل نقلة تاريخية في المسار العدلي في المملكة، ولا أدل على ذلك من إعلان سمو ولي العهد بنفسه عن المصادقة على قانوني الأحوال الشخصية والإثبات، مؤكدا أن الفترة المقبلة سوف تشهد إقرار نظام المعاملات المدنية، والنظام الجزائي للعقوبات التعزيرية.

هذا الاهتمام الكبير يؤكد بوضوح الرؤية الحكيمة لسموه وقناعته الكاملة بأهمية النظام القضائي في ترتيب أمور الدولة ورفع دورها العالمي وترسيخ مكانتها الاقتصادية، وتعزيز قدرتها على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما نشاهده فعليا حيث تبوأت المملكة مكانة رفيعة بين الأمم، وارتفع تصنيفها لدى المؤسسات المالية الدولية، وأصبحت قبلة رئيسية يتهافت عليها أصحاب الأموال من كافة دول العالم للاستثمار فيها.

وليس خافيا بطبيعة الحال الارتباط الكبير بين كفاءة المنظومات القانونية والعدلية في أي دولة وقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية، من خلال التصنيف الذي تناله، بناء على معايير محددة تتولى جهات دولية مراقبتها وضمان وجودها. لذلك فإن هذه المساعي تأتي داعمة للجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة لترقية الاقتصاد عبر استحداث مشاريع نوعية وغير مسبوقة وانخراط المملكة في الاقتصاد العالمي، وفق ما نادت به رؤية 2030.

كذلك فقد أسهمت هذه الجهود المباركة وستسهم حتما في تعزيز المكانة الكبيرة التي تبوأتها المملكة عبر السير نحو ترسيخ الحاكمية وجعلها أساسا للدولة الحديثة، لأن التعديل والتحديث المستمر في القوانين والتشريعات هو من سمات الدول التي تنشد استمرار التقدم ودوام النهضة، فملاءمة القوانين لاحتياجات المجتمع هي المقياس الحقيقي للتطور والمعاصرة، لأنها التي تنظم حياة الناس وتحكم حركتهم وتحفظ حقوقهم وتحدد واجباتهم.

لذلك أقول بثقة كاملة إن ما تحقق من نهضة تشريعية متكاملة في هذا العهد الزاهر يدعو للفخر والاعتزاز، وستظل هذه الإسهامات القضائية التي تنظم كافة جوانب حياتنا باقية في ذاكرة الأجيال، جسرا نحو العدالة، وطريقا لتأكيد عمق وقوة وحجية القانون في المملكة وسيادته، وحصانة إجراءات التقاضي بما يحقق التطور والرفعة ودوام التقدم.