انشغلت الساحة الإعلامية، خصوصاً في وسائل الإعلام الجديد، بما قام به بعض شباب مدينة الرياض بمداهمة مستشفى (عرقة) الأسبوع الفارط، بعدما أشار أحدهم في (البلاك بيري) إلى وجود جنّ في ذلك المستشفى المهجور، فأنشأ له الشباب (هاش تاق) في موقع (تويتر)، وأسموا تلك المداهمة التي تمت مساء الاثنين الماضي بـ"غزوة الجن"، ما اضطر الدوريات الأمنية للوجود هناك، إلى تفريق أولئك الشباب الذين قام بعضهم بإشعال حريق في بعض أجزاء المستشفى، وسرعان ما سرت موضة (غزوات الجن) لبقية المناطق، بل وتحوّلت إلى طرائف ونكات..
للأسف يرتبط الوعي المجتمعي المحلي بكثير من الأساطير والغيبيات التي يقوم معظمها على خيالات شعبية، ولا ترتكز على حقائق علمية ثابتة. نؤمن ولا شك بالجنّ، بل ثمة سورة كاملة في القرآن الكريم باسم (الجنّ)، ولكن إحالة كثير من الظواهر الميتافيزيقية إلى هذا الجنس الذي خلقه الله، هو من باب الخطأ والتخلف، وإن كان مسوغاً له في السابق بسبب أمّية المجتمع، فإنه لا يليق أبداً فشوّ مثل هذه الحكايات التي تضحك علينا أمم البسيطة بسببها وتتهكم.
أنا أحد المؤمنين بأن عالم الجن مستقلّ بكامله عن عالم الإنس، وربما تحدث بعض التماسات النادرة، ولكن في الجملة هو عالم مستقل كامل، ولن أدخل في التفاصيل الشرعية، ولكن أؤكد أن التنشئة الاجتماعية التي يترعرع من خلالها أمثال أولئك الشباب في هذه الجزئية تحتاج لإعادة نظر، ودعوني أضرب لكم مثالا سبق أن سقته في محاضرات لي حول هذا الموضوع.
فقبل أكثر من خمس سنوات نشرت مجلة (الأسرة) في صفحة الصحة سؤالاً من أمّ والهة تشتكي من أن ابنها الذي يدرس في المرحلة المتوسطة يقوم بحركات غريبة بفمه، ما أثار أساتذته وزملاءه، وتطوّر الأمر معه فبات يلوي رقبته بطريقة غاية في الغرابة، ويرفع عينيه ويهمهم في اللحظة نفسها بكلمات عجيبة غير مفهومة، لا تنتمي للغة البشر من أمثال: "كغ كغ كغ!" وعندما تسأله أمه لماذا يفعل ذلك بعد أن يعود لحالته الطبيعية؟ يجيبها بأنها حركات تجيء من غير إرادته وتدهمه رغماً عنه، وتروح بنفس الطريقة.
وكعادة معظم أمهاتنا ـ يحفظهن الله ـ لم تجد الأم المسكينة بدّاً من الذهاب إلى أحد المشايخ الذين يداون بالقرآن الكريم، بعد أن نصحها القريبون منها بذلك، وما لبث أن تفاعل الفتى مع القراءة وبدأ يقوم بحركاته الغريبة من عضّ الشفة وإصدار الأصوات والهمهمة التي علت مع القراءة، وسأتوقف معكم هنا، وأطلب منكم أن تحزروا السبب في حالة هذا الفتى..
أجزم بأن الكثيرين منا ذهب إلى ما ذهب إليه الشيخ في تعليله، من أن مسّاً من الجنّ أصيب به الفتى.
بقية الحكاية تقول بأن الفتى تدهورت حالته النفسية، وبالطبع لم يفد من العلاج ـ مع أنه مشروع وحقّ ـ أبداً، وعند استفسار الأم من أحد الخبراء النفسيين أجابها بأن هذه الأعراض تشير إلى مرض نفسي عصبي نادر يسمونه مرض توريه (tourette's disorder) يصيب ما بين 3-5 أفراد من كل عشرة آلاف شخص، وأن الدراسات العلمية تقول بأن المصابين بهذا المرض يقومون ببعض الحركات الغريبة ولديهم وساوس قهرية، وثمة أدوية تساعد في تخفيف هذه الأعراض بنسبة كبيرة.
حكاية (غزوة الجن) ومسألة الماورائيات أو الغيبيات التي يتربى عليها المجتمع، باتت الصحافة والإعلام الجديد ـ الذي من المفترض أن الشباب فيه مثقف وواع ـ يساهمان في نشرها، وترويج قصص الجن والعفاريت والسحرة، فبدلاً من تثقيف الناس والارتقاء بوعيهم بتنا نساعد للأسف في تجذير ثقافة الخرافات التي تروَّج في أوساط العامة، ويتسامر بحكاياتها النساء والصبية وكبار السن والأميون.
والله يا سادة إن أساتذة جامعيين وخريجون من جامعات الغرب الراقية، يستمرئون الانغماس الكلي في هذه الميتافزيقيا بشكل يتعجب مثلي أن يلغ هؤلاء في هذه الخرافات، وقد كتبت مراراً عن ثقافة الماورائيات التي تتجاوز الجن والسحرة إلى الأساطير والملاحم، وأكدت على أن تعميم وإشاعة مثل هذه الثقافة في أجوائنا المجتمعية وتربوياتنا هو استغراقٌ في الجهل، وردّة إلى الأمية، ونوع ٌمن التخدير السلبي القاتل الذي سيؤدي إلى تعطيل طاقات الأجيال وإشاعة روح التكاسل والتخاذل والرهبنة، ودورنا ينبغي أن يتجلى في التعريف بها في حدودها الأضيق بما جاء في الأحاديث الصحاح، وتجذير الوعي ونشر العقيدة الصحيحة في مقاصدها البعيدة الداعية إلى العمل وطلب العلم، ومزاحمة الأمم في سلم الحضارة الإنسانية.
حادثة (غزوة الجن) مؤشر بمدى تجذّر ثقافة الخرافة.. ولكن السؤال:
من هو المسؤول؟