كانت هذه بدايات الخلل في العقل الإنساني الذي لم يتمكن من فهم ظاهرة وفكرة أن الشر والخير يجتمعان في ذات واحدة، وأنه بمكنة الإنسانية أن تتعايش مع ذاتها إذا ما كانت أرواح أفرادها وذواتهم منغمسة في الخير والشر، وإنها تارة تعمل الخير وأخرى تعمل الشر، وأن هذه الصفة والميزة، مخلوقة في أصل نشأة النفس الإنسانية، وأنه لا مناص من أن تعمل هذه النفس الخير والشر، وأن فكرة عصمتها من الخطأ والشر، تتعارض وطبيعة النفس البشرية في أصل خلقتها إلا ما شاء خالقها ومبدعها، وهذا الاستثناء من أجل من عصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن رب العالمين، وفي عصمتهم من وقوعهم في عظائم وكبائر الأمور، و«إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف»، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. أما الصغائر فلا شك أنها تقع منهم بنص التشريع مع عدم إقرارهم عليها «فقد يقَعُ منهم الذَّنبُ ولا يُقَرُّون عليه ولا يُقَرُّون على خطأٍ ولا فِسقٍ أصلًا، فهم منَزَّهون عن كُلِّ ما يقدَحُ في نبُوَّتِهم، وعامَّةُ الجمهورِ الذين يجَوِّزون عليهم الصَّغائِرَ يقولون: إنهم معصومون من الإقرارِ عليها».
وعانى تأريخنا القديم والحديث من عدم فهم مسألة صدور الخير والشر من النفس البشرية، ففي بدايات التاريخ الإسلامي نهض الفكر المتطرف الذي تزعم فكرة إخراج المسلمين من أصل دينهم ووصمهم بالكفر والشرك، وكان ذلك بسبب الخلل في فكرة صدور الخطأ والشر والصواب والخير من الذات الإنسانية.
لذا فإن الفكر المتطرف لم يستوعب صدور شر يُصنف على أنه كبيرة من الكبائر مع بقاء أصل الإسلام، فاتجه إلى نزع صفة الإسلام من كل من يقع في الكبائر واستبدالها بالوصم بالكفر والإخراج من دائرة الإسلام، ثم رتب على ذلك القتل والحرق والتشويه لهؤلاء الخارجين عن الدين، بسبب ذلك الخلل الفكري المتأسس على عدم استيعاب أن النفس البشرية تحمل في عمقها الخير والشر والخطأ والصواب.
ثم ظهر اتجاه آخر كي يصحح الفكر المتطرف، فقال إن مرتكب الكبائر في منزلة بين المنزلتين، وهو خلل حقيقي في عدم استيعاب أن الذات الإنسانية قد ترتكب الكبائر مع بقاء أصل الصفة الدينية عليها. ثم ظهرت اتجاهات شتى مشرقة ومغربة من دون الوقوف على أصل الإشكالية، فامتدت تلك الإشكالية حتى عصرنا الحاضر.
وتمثلت هذه الإشكالية في نزع صفة الإسلام عن كل من ارتكب أفعالاً هي في حقيقتها لا تحمل في طياتها الكفر أو الارتداد عن الإسلام، إلا أن أصحاب تلك الفكرة تسربت إليهم الإشكالية القديمة في عدم استيعابهم أن النفس الإنسانية تحمل في طياتها الشر والخير والخطأ والصواب.
فأحدث هذا الفكر أعمالاً إجرامية وخرابا ودمارا تمثل في كل صور التطرف الذي قامت بها جماعات الجهاد والتفكير منذ قرابة أكثر خمسة عقود، وكذلك تسربت هذه الفكرة إلى كثير من الناس سواءً المتدينون أم العوام في نبذهم وطردهم واحتقارهم لكل من يقع في فعل يُصنف على أنه شر وخطأ بزعم أنه ارتكب مخالفة وفعلا عظيما يخالف الدين.
وفي نظري أن هذا النبذ والطرد الذي عاصرناه، لم يحدث من فراغ بل حدث بسبب تسرب هذه الفكرة شديدة الخطورة، وهي عدم تحمل أو استيعاب أن الأنسان قد تجتمع فيه صفة الخير والشر، وأنه يبقى مع ذلك إنسانا عاديا يمكنه إكمال حياته ومحاولة تصحيح أخطائه، وأن خلط الذات الإنسانية عملان متناقضان هو طبيعة إنسانية وحقيقة بشرية، فقد قال خالقنا: «وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً»، أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال أخرى صالحة خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه.
وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين المتلوثين، لأن خصوص السبب ههنا غير مؤثر في عموم الحكم، وأنه «ليس من شرط المتقين ونحوهم ألا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متقٍ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين ومن فعل ما يكفر سيئاته دخل في المتقين كما قال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾، وبسبب غياب هذه اللفتة القرآنية العميقة عانت مجتمعاتنا بسبب الأوصياء الدينيين في الظاهر الويلات والكبت والانغلاق، حتى أصبحنا مجتمعاً يُضرب به المثل في التأخر وعدم التطور.
لذا فإن التنبه لهذه المنعرجات الفكرية، حري بإذكاء أعلام التطور والتقدم في أرواح وذوات أفراد المجتمع والكره في العودة إلى فكر الانغلاق.