لم يكن الغضب الفلسطيني على مبعوث اللجنة الرباعية الدولية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وليد الاتصالات الأخيرة بل تعود جذوره إلى اللحظة التي بدأ فيها مفاوضات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتخفيف الحصار المفروض على غزة بدلا من رفعه نهائيا.
ولكن يمكن اعتبار الأزمة الأخيرة بين السلطة الفلسطينية وبلير بأنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير وإن كانت السلطة الفلسطينية لم تتقدم حتى اللحظة بطلب رسمي إلى اللجنة الرباعية من أجل استبداله حتى وإن كان يحظى بالثقة الكاملة من قبل الإدارة الأميركية ومسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون.
وقد جاء بلير إلى منصبه هذا بعد أن استقال منه رئيس البنك الدولي السابق جيمس ولفنسون بصلاحيات هي في مجملها اقتصادية تنموية، ومع ذلك فإن بلير لم يستسلم لهذا التفويض وبقي يسعى من أجل دور سياسي مستغلا في ذلك علاقاته مع الدول الكبرى.
كان ولفنسون اختار فندق الأمريكان كولوني في القدس الشرقية مقرا لمكتب مبعوث اللجنة الرباعية، وعندما تولى بلير هذا المنصب ثارت تساؤلات عن الموقع الذي سيختاره مقرا له، فأبقى على نفس الفندق مقرا ولكن مع توسع كبير بأجرة سنوية كبيرة جدا تصل، وفقا لتقارير نشرتها صحف بريطانية، إلى نحو مليون دولار.
استدعى هذا القرار إجراء تغييرات واسعة في ترتيبات الأمن في الفندق إلى أن قرر بلير استئجار بناية في حي الشيخ جراح ملاصقة لفندق الامبسادور يقال إنها أقل تكلفة من فندق الأمريكان كولوني.
ولا يقيم بلير بشكل دائم في القدس، إذ يزور المنطقة لعدة أيام على الأقل مرة شهريا يلتقي خلالها المسؤولين في كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، قبل أن يعود إلى بريطانيا حيث يقيم مؤسسات خيرية فيما تعاقد مع شركات كمستشار ويلقي محاضرات يتلقى مقابلها مبالغ كبيرة.
ولكن يقيم في مقر مكتب مبعوث اللجنة الرباعية في القدس طاقم كبير يضم خبراء في المجالات الاقتصادية والمالية والتنموية يتابع بشكل يومي تفاصيل الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ويتدخل كلما استدعت الحاجة لتقريب وجهات النظر الفلسطينية- الإسرائيلية في هذا المجال.
وحتى الآن فقد استعان بلير وللمرة الثانية بدبلوماسيين أميركيين سابقين لمنصب القائم بأعمال مبعوث اللجنة الرباعية ليدير أعمال المكتب في غيابه.
طبيعة المهمة الاقتصادية التي يتولاها بلير استدعت منذ تولي نتنياهو رئاسة الوزراء في إسرائيل اشتباكا مع السلطة الفلسطينية خاصة أن نتنياهو جاء إلى منصبه ببرنامج السلام الاقتصادي الذي رأى كثيرون أنه يتقاطع إلى حد كبير مع مهمة بلير.
معاناة الفلسطينيين
وكان الفلسطينيون أعلنوا رفضهم للسلام الاقتصادي الذي روج له نتنياهو، فأكدوا على أن المطلوب أساسا هو حل سياسي تأتي التنمية الاقتصادية استكمالا له وليس بديلا عنه.
مع بروز أزمة مهاجمة قوات كوماندوز إسرائيلية لأسطول الحرية الذي كان في طريقه إلى غزة وقتل هذه القوات 9 من النشطاء الأتراك، برزت توقعات بأن تسارع الحكومة الإسرائيلية إلى رفع الحصار عن قطاع غزة من أجل امتصاص موجة الغضب الشعبية التي سادت دول العالم بعد أن اتضح للمرة الأولى حجم معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة.
وقد كانت حادثة أسطول الحرية زادت من تعاطف الشعوب في العالم مع قطاع غزة بعد الحرب الإسرائيلية على القطاع، مما جعل أصواتا تعلو في العالم مطالبة برفع الحصار.
هنا برزت إشكالية بلير الأولى عندما عقد مفاوضات مكثفة مع نتنياهو من أجل تخفيف الحصار على غزة وليس رفعه نهائيا، فكان أن تناولت المفاوضات قوائم وسلعا أفضت إلى إعلان الحكومة الإسرائيلية أولا عن تغيير سياستها تجاه قطاع غزة ولاحقا، بعد عدة أشهر، أعلنت عن استبدال القوائم الإيجابية بقوائم سلبية بمعنى أنها استبدلت قوائم المواد المسموح بإدخالها إلى غزة، وهي قليلة، بقوائم للمواد التي يمنع إدخالها، وهو ما زاد من نوعية وكمية البضائع التي تدخل إلى غزة ومع ذلك فقد بقي الحصار مستمرا.
هذه المفاوضات استدعت انتقادات فلسطينية حادة ضد بلير إلى حد دعا فيه نشطاء فلسطينيون إلى اعتبار بلير شخصية غير مرغوب فيها في الأراضي الفلسطينية.
انتقادات شعث
وقد وجه عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" الدكتور نبيل شعث انتقادات حادة ضد بلير واصفا إياه بالمدافع عن سياسة نتنياهو في حصار قطاع غزة، إذ أشار إلى أن الرزم التي أعلن عنها بلير ونتنياهو إنما استهدفت تجميل الحصار الإسرائيلي وليس إنهاءه.
سعى بلير إلى تبديد هذه المخاوف فتضمنت الرزمة الثانية التي توصل إليها مع نتنياهو مشاريع تسمح الحكومة الاسرائيلية بتنفيذها في الضفة الغربية وللمرة الأولى فإنها تضمنت أيضا مشاريعه في القدس الشرقية.
ومع ذلك فقد استمرت علامات التوتر ولوحظ أن الرئيس محمود عباس لم يكن يستقبله بالوتيرة المتوقعة لمسؤول غربي يمثل أطراف اللجنة الرباعية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة.
ولم يحظ بلير أبدا بصلاحية لعب دور سياسي في العملية السياسية إذ أبقت واشنطن على مبعوثها لعملية السلام السيناتور جورج ميتشيل ولاحقا ديفيد هيل وأبقت الأمم المتحدة على مبعوثها روبرت سيري كما أبقت روسيا على مبعوثها سلطانوف وإن كانت كاثرين أشتون قررت وللمرة الأولى الاستغناء عن منصب مبعوث الاتحاد الأوروبي واحتفظت بهذا الموقع لها ولطاقمها.
دعم أشتون
وثمة من يشير إلى دعم مطلق تمنحه أشتون لبلير من خلال التنسيق المتواصل معه إلى حد أن أحد المسؤولين الفلسطينيين قال "أشتون تعمل لحساب بلير الذي يعمل لحساب المسؤول الأميركي دينيس روس الذي بدوره يعمل لصالح مستشار نتنياهو إسحق مولخو".
قبيل توجه الرئيس عباس إلى نيويورك لتقديم طلب عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، اتصلت به وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون وطلبت منه استقبال بلير والاستماع إلى ما لديه من أفكار.
قدوم بلير لمقر الرئاسة الفلسطينية جاء بعد فشل متدحرج للجنة الرباعية التي أخفقت لعدة مرات بعقد اجتماع على المستوى الوزاري ولاحقا أخفقت في إصدار بيان يصلح أساسا لاستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية وإن كانت اللجنة أصدرت بيانا خلا من أي مضمون ذي معنى وتم، فلسطينيا، اتهام بلير بالمسؤولية عنه وإن كان الأخير نفى هذا الاتهام مشيرا إلى أنه شخصيا لا يصيغ بيانات الرباعية.
يهودية إسرائيل
في الاجتماع مع الرئيس عباس طرح بلير مقترحا لبيان يصدر عن اللجنة الرباعية سجل عليه المسؤولون الفلسطينيون 3 ملاحظات وهي أولا، أنه يتحدث عن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي دعا إلى مفاوضات على أساس دولة على حدود 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي ولكنه ينسف ذلك في فقرات لاحقة بالحديث عن أخذ الحقائق التي نشأت على الأرض بعد عام 1967 بعين الاعتبار وثانيا، أنه لم يتضمن وقفا للاستيطان وثالثا، أنه تحدث عن الاعتراف بيهودية إسرائيل.
لم يقبل الرئيس عباس بهذه الصيغة ورد بموقف من 3 عناصر وهي أولا، الإقرار الإسرائيلي بحدود 1967 لتطبيق حل الدولتين وثانيا، وقف جميع الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية وثالثا، أن لا اعتراف بيهودية إسرائيل وأنه في حال الموافقة على هذه المبادئ فإن الجانب الفلسطيني سيعود إلى المفاوضات.
غادر بلير المقر الرئاسي الفلسطيني بتأكيد على أنه سيعود قريبا حاملا معه صيغة مقترحة لصدور بيان عن الرباعية.
كانت اقتراحات بلير متقاربة إلى حد كبير مع مسودة البيان التي حاولت، قبل ذلك، الولايات المتحدة أن تمررها في اجتماع الرباعية وأخفقت بعد أن عارضتها روسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في تلك الأثناء تعززت قناعات الفلسطينيين بأن بلير يعمل على ترويج الأفكار الإسرائيلية-الأميركية وأنه يعمل، بجهد، من أجل جلب أشتون إلى جانبه.
مقترحات مكررة
وإن كانت مكالمة كلينتون للرئيس عباس باستقبال بلير قد أكدت على أن بلير قادم في مهمة أميركية بالأساس فإن قدوم المبعوثين الأميركيين ديفيد هيل ودينيس روس إلى مقر الرئاسة برسالة واضحة تؤكد دعم الإدارة الأميركية لمهمة بلير قد عززت هذا الأمر.
الاعتقاد الذي ساد هو أن ما أخفقت واشنطن بتمريره في اجتماع الرباعية أراد بلير أن يمرره باعتباره أحد نتاج جهوده.
بعد عدة جلسات تفاوضية مع نتنياهو استقبل الرئيس عباس بلير في العاصمة الأردنية عمان، بعد عودة الرئيس من اجتماع لجنة المتابعة العربية الذي عقد في القاهرة، وهناك قدم بلير مقترحه الذي لا يختلف عن الاقتراح الأول وإن كان ببعض التلاعب بالكلمات مثل بدلا من الدعوة الصريحه للاعتراف بيهودية إسرائيل استخدام عبارة "إسرائيل، الوطن القومي للشعب اليهودي".
وإن كان بلير يتحرك بصفته مبعوثا لرباعية الدولية فإن أطرافا اساسية في هذه اللجنة مثل روسيا والأمم المتحدة لم تكن في الجلسات مع القادة الفلسطينيين تطرح ما يطرحه بلير ومن ناحية ثانية وإن كانت أشتون تدعم بلير فإن هذا ليس ما استمع إليه المسؤولون الفلسطينيون من دول أساسية في الاتحاد الأوروبي مما يشير إلى أنها ليست مواقف إجماع أوروبي.
ليس مبعوثا
منذ تلك اللحظة بدأ التعامل مع بلير باعتباره ليس مبعوث الرباعية وإنما مبعوث للمسؤول الأميركي دينيس روس فقال مسؤول فلسطيني "بلير جاء ليروج لأفكار كتبها روس مع مستشار نتنياهو إسحاق مولخو".
آنذاك لم يكن بلير ليحسد على الوضع الذي وصل إليه في عيون الفلسطينيين.
ولكن ليزيد الطين بلة فإن بلير أطلق تصريحات شديدة اللهجة ضد خطاب الرئيس عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو ما لم تفعله لا الولايات المتحدة ولا أوروبا وبطبيعة الحال لا الأمم المتحدة ولا روسيا.
بدأت التصريحات الفلسطينية تتصاعد بوجوب مقاطعة بلير وتحولت لاحقا إلى دعوات لاستبداله ولكن حتى الآن فإن ليس ثمة طلب رسمي باستبداله.