وبكل المؤكد، ستزدحم عناوين الصحافة العربية وكذا جوهر مقالات كتابها بتحليل ما كان من مصر وبقراءة ما أفرزته صناديقها التي شهد لها العالم بأسره بنزاهة مطلقة. ستقرؤون عناوين مثل (لا يفل الإخوان إلا الفلول) أو على النقيض (مصر تصر على إعادة إنتاج النظام القديم). ستقرؤون لمن يقول إن مصر أرادت معاقبة الإخوان المسلمين على سوء إدارة الفترة الانتقالية الحرجة، ولمن يقول أيضاً إن مصر برهنت على انقسام حاد بين أنصار نظامين متناقضين وبين الخيار ما بين – الثيوقراطي الديني – وبين الصارم العسكري. ربع سكان مصر يصوتون للتغيير وربعها الآخر وبذات النسبة إلا من كسر عشري يصوت على النقيض ضد مغبة هذا التغيير.
كل هذه القراءات وسواد هذا التحليل تذهب إلى إجابة السؤال الذي يبدأ بـ(كيف) ولكنها لا تجيب عن السؤال الذي يبدأ بـ(لماذا). كلها تجيب عن الآلية ولكنها تغفل السبب. تجيب عن الرقم الأخير في القراءة النهائية لأصوات الناخبين ونسب الفائزين ولكنها لا تجيب عن ابتداء الرقم الأول. السبب الجوهري لأن الشقيق المصري برهن على أنه بارع في أن يخلق لنفسه الأزمة. برهن على أنه بارع جداً في أن يقود نفسه إلى مواجهة الورطة. ذهب بخياره الطبيعي النزيه إلى اختيار أسوأ الاحتمالات وأكثرها صداماً و(عنفواناً) قد يقوده إلى حذف نصف تلك الكلمة الأخيرة ما بين القوسين. برهن على أنه يريد أزمة جديدة وطاحنة تصبح فيها أزمات عامه الأخير بالمقارنة معها مجرد أطباق ثانوية بجوار المائدة الأزمة القادمة. برهن أنه ينظر إلى ميدان التحرير في القادم من الأيام هدفاً لا وسيلة. برهن أنه ينظر للميدان على أنه السكن الثابت، وأن السكون هو الحالة الطارئة. برهن أنه ينظر للحالة السياسية وللوضع السياسي كي تبقى حالة (تلفزيونية) للإثارة اليومية في صراع النخب السياسية بدلاً من أن تذهب هذه النخب إلى قصور الرئاسة وباقي مؤسسات الدولة لإدارة البلد. برهن أنه انحاز إلى استمرار الحالة الانتقالية المضطربة وبقاء درجة الغليان السياسي وحرارة الحوارات الساخنة. لماذا هذا كله، فالجواب لأنه اختار ذروة المشهد السينمائي الذي اكتملت به أروع حبكة لصعود وتصعيد الأزمة. كل هذا لا يصنع إلا في مصر، وحصرياً من صنع المصري وثقافة الاجتماع السياسي في مصر. اختار المصريون نسخة بالغة التركيز للمواجهة الثنائية الأخيرة وكان في متناول اليدين نسخ أخرى مخففة. ركبوا الدهشة وذروة المفاجأة في صناعة الأزمة وهم يتجاهلون استطلاعات الرأي ويغمضون العيون عن اختيار الشخصيات الكاريزماتية. اختاروا البارود الساخن وماء النار على حساب الأقل تفجراً وبرودة. كان إمامهم نسخة من عبدالمنعم أبوالفتوح وعمرو موسى أقل تركيزاً وأكثر قبولاً وأكثر من هذا يبدوان أشمل تمثيلاً وبهدوء وسلام من النسخة الرسمية الأخيرة. وبدلاً من هذا اختار المصري أن يعود بعد الانتخابات إلى قلب الأزمة التي ظن أنها ستنتهي حين تذهب الصناديق إلى الأرشيف وحين ظن أن هذه الصناديق ستبقى مجرد ذاكرة لأيام الأزمة.
اختار المصري، بحنكته المفاجئة في صناعة الأزمة، أن يضع الشعب بين خيارين: تصويت نهائي على الانقسام الجذري الحاد الذي ستكون نهايته بداية العقاب لا نهاية العواقب. اختار أن يضع الشعب بين الاقتراع على ظل حسني مبارك أو شبح المرشد الفقيه. اختار أن يضع المصريين ما بين إعادة إنتاج النظام القديم وما بين إعادة إنتاج نظام شمولي يشبهه في الاستحواذ على كل شيء حذو القذة بالقذة. اختار المصري فكرة الاستحواذ والاستنساخ لا فكرة الشراكة والتعددية. اختار العودة لهيمنة الحزب الوطني أو رسم نسخة مشابهة له باسم الحزب الديني وكل ما في المسألة مجرد تغيير حرفين ما بين الحزبين ليبقى على ما هو عليه من معالم الاستحواذ والشمولية.
إذا فاز أحمد شفيق نزل ربع السكان إلى الميادين وإن فاز محمد مرسي نزل ربع الشعب إلى الفضائيات وردح التوك شو. إذا فاز أحمد شفيق عاد البلد إلى المربع الأول ليستمر حكم العسكر وكأن شيئاً لم يكن وإن فاز محمد مرسي استيقظت الطائفية البغيضة وتساءلت النخب عن مستقبل الحريات. إذا فاز أحمد شفيق أخرج الشعب ملفات الفلول وإذا ما فاز محمد مرسي تساءل الجميع عن ماذا تبقى للشعب من المشاركة. إذا ما فاز أحمد شفيق قفزت للذاكرة أسئلة مبارك من خلف الأسوار. وإذا ما فاز محمد مرسي قفزت للذاكرة أيضاً أسئلة موقع مرشد الجماعة. إذا ما فاز أحمد شفيق تساءل الشعب عن الولاءات للنظام الذي ثاروا عليه وإذا ما فاز محمد مرسي تساءل نفس الشعب عن الولاءات للمنظمة الدينية السرية.
هو اقتراع غير مباشر على حسني مبارك ومحمد بديع. على رئيس الدولة المخلوع وعلى رئيس المنظمة التي مازال يحظرها القانون. مصر تبرهن أنها استمرأت الميادين. إنها تنظر للميادين كهدف لا وسيلة. إنها تنظر للأزمة كحالة استمرار لا كمؤشر لنهاية اللااستقرار. مصر تذهب للأزمة طائعة مختارة. بدلاً من أن تصوت للمستقبل: صوتت لجمهورية ثانية من الأزمة.