ففي مدخل هذا الكتاب، تم طرح الأسئلة التي يمكن اختزالها هنا في سؤالين: الأول عن سبب ذلك التناقض الحاد بين عمق المأساة -مأساة النهضـة- واستفزازها، وبين ضعف الاستجابة لتلك الأزمة؟. أما السـؤال الثـاني، فهو سؤال متكـرر ومحير في الـوقت نفسه، وهو: لماذا لم تحسم الأمة العربية مصيرها، وتكمل نهضتها، وتحقق أهدافهـا كـما فعلت أمم شرقية كثيرة غيرها؟.
ومن خلال الأبـواب الثمانية المكـونة للكتاب، يقوم المؤلف بتفصيل الأسئلة، وطرح بعض الإجابات، مخترقا أكثر من بُعد من أبعاد الأزمة.
ففي الباب الخامس يتعرض المؤلف لإشكـاليـة «النفط والثقافـة»، متسائلا: كيف يمكن ضخ النفط في عروق الثقافـة العربية؟، وهي إشكالية تطرح زاوية متميزة من هذه العلاقـة الشائكة بين النفط والثقافة، وذلك لأنها تطرح تساؤلا مضمرا مهما، فحـواه: هل انتقل العرب إلى عصر النفط بالمعنى الحضاري، أي عصر الاكتشـاف والتصنيع والتكنولوجيا بكل ما يترتب على ذلك من تغير هيكلي بنيوي وعقلي ثقافي، أم ظلوا عنـد حـدود الانتفاع بالثمرة دون الإسهام في عمليات إنتاجها وتصنيعها على جميع الأصعدة؟. والسؤال بهذه الصيغة ليس سؤالا غريبا عن إشكالية الأزمة والنهوض.
ومن إشكالية النفط والثقافة يتحرك الكتاب إلى محور الفجوة بين المشرق العربي والمغرب العربي ثقافيا، وبدلا من أن يكتفي بمناقشة المشكلة كـما تطرح عادة في شكاوى المغاربة من استعلاء المشارقـة، ينقل المؤلف القضية إلى مستوى علاقة المركز بالأطراف في الثقافة العربية. في هذا السياق تنتفي ثنائية المشرق والمغرب في بُعدها الجغرافي، ليناقش المؤلف أزمة الاتصال الثقافي من منظـور أوسع وأشمل.
لكن إشكاليات الثقافة العربية لا تكتمل إلا بمناقشة علاقة الثقافة العربية بالثقافة الأخرى -الغربية بصفة خاصة- لتكتمل دائرة السؤال والجواب في بناء الكتاب. ويتم في هذا الباب السابع الإجابة عن السؤال: لماذا فشلت الأمة العربية في حين نجحت الأمم الشرقية الأخرى -اليابان- في تحقيق النهوض؟.
لا يبقى من الكتاب سوى الباب الثامن «الثقافـة العربية في همومها اليومية»، وهو نقاش لبعض القضايا التي نقابلها هنا وهناك في الأبواب السبعة السابقة.
لا بد من إقـرار أن مبدأ «نقد الذات» من المبادئ المهمة جـدا التي يعتمد عليها هذا الكتاب، واعتماد هذا المبدأ يُعد في ذاته طرحا مبشرا بإمكان التعامل مع الأزمة تعاملا صحيا وصحيحا.
نقول هذا في البداية، لأن المؤلف، وإن كان يطرح «الحل الإسلامي» بوصفـه الحل الحضاري الشامل لأزمتنا الراهنة، لا ينطلق من مبدأ «تبرئة الـذات» وإلقـاء التبعة -تبعة التخلف- على الآخر. المؤلف، الذي يؤمن بمبدأ نقد الذات، يرى أن البحث عن أسباب الأزمة يجب ألا يتجه دوما إلى الخارج، فلولا الكيان الضعيف والهش -اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا- لما أمكن للآخر استعمارنا.
وعن أسباب هذا الضعف الكامن على جميع المستويات والأصعدة يكون البحث بدلا من تعليق أسباب النكوص على شماعة الآخر. وليس معنى ذلك إعفاء أوروبا الاستعمارية تماما من جريرة الاستعمار، عسكريا كان أم استيطانيا أم ثقافيا وعقليا.
إن لقاءنـا بالغرب فيما يرى المؤلف لم يكن لقاء التكافؤ، لذلك نقاوم الاستعمار الغربي مقاومة خاطئة.. نقاوم التقدم بوصفـه جزءا من شخصيـة المحتل، وبعبـارة أخرى «لا نفرق بين الاستعمار الذي يجب أن نقاومه ونحاربه، وبين التقدم والحضارة التي يجب أن نأخـذ بهما»، والسبب بهـذا الاضطراب في فهم الآخر واستيعابه كـامن في وعي الذات.. ذلك الوعي التجزيئي الذي يعزل الظواهر عن بعضها البعـض، ويرد كل المشكـلات المتراكمة إلى عامل واحد. من هنا تنبع الحاجة إلى فهم الذات ونقدها بعيدا عن اللجوء إلى التبرئة الكـاملة المطلقة، ودون الوقوع في جلد الذات بالإدانة الكاملة المطلقة.
إنه منهج الفكر المفتوح الباحث عن الحقيقة مهما تكن، لا نهج التفكير بالأماني والرغائب.
وإذا كان من واجب الفكر إدراك منتهى الحقائق، فإن من واجبـه ألا يـدعي امتلاك الحقيقة كـاملة، لأن ذلك محال بـالنسبة لأي عقل إنساني، وسيكـون من الأفضـل، في ضـوء التطـورات المعرفيـة الجديدة في العـالم، أن يتخـذ الفكـر شكل التـوجهات والأبعاد المفتـوحـة، لا شكل المقولات النهائية. هذا البحث عن الحقيقة هو الباعث المحرك لنقد الذات بعد محاولة اكتشاف خصائصها بشكل موضوعي دون مبالغة أو تهوين.
وفي سبيل البحث عن هذه الخصوصية، يقترح المؤلف البدء بما انتهي إليه ابن خلدون في دراسته للواقع العربي في زمانه وقبل زمانه، أي للتاريخ في سياقه الاجتماعي. لكن المؤلف يضع فاصلا حادا -لا نتفق معه فيه- بين إنجازات ابن خلـدون وبين الإضافات التاليـة عليه في سيـاق تطـور علم الاجتماع، وهـو بهذا الفصل الحاد يكـاد يحول الخصـوصيـة إلى صفـات جوهرية ثابتة، وليست خصوصية تاريخية.
1991*
* باحث وأكاديمي مصري «1943 - 2010»