نحن أيها القراء الكرام أمام إنجاز سعودي عالمي غير مسبوق. إنجاز سيذهب مباشرة إلى كتاب جينيس للأرقام الاستثنائية الضخمة وغير المتكررة لا إقليمياً ولا عالمياً. فقد طالعتنا صحيفة الرياض يوم الخميس الماضي بتحليل إخباري ينتهي إلى النية لدمج ما يقرب من تسعين ألف شركة للمقاولات بحيث ينتج في النهاية عدة شركات كبيرة تستطيع أن تنافس على الفوز بالمشاريع الكبرى في المملكة.

اللافت في هذا الخبر حقيقة هو عدد الشركات التي تنوي الاندماج مع بعضها. تسعون ألف عملية اندماج تعني الحاجة إلى توظيف ما لا يقل عن 1000 محاسب قانوني وخبير تقييم. هذا بالإضافة إلى الحاجة إلى 90 ألف محام قانوني بمعدل واحد لكل طرف. هذه العملية الضخمة وغير المسبوقة تعني أيضاً انعقاد أكثر من 20 ألف اجتماع إداري للمناقشة بين الأطراف المندمجة مما يعني الحاجة إلى أكثر من 5000 يوم عمل. وبحسبة بسيطة نحن نتحدث عما يقارب 14 سنة من العمل المستمر الدؤوب الذي لا يتوقف قبل أن يتم الدمج الحقيقي لهذه الشركات. هذا إذا مرت الاجتماعات بتوافق تام في كل اجتماع. وماذا عن دور الجهات الرسمية التنظيمية. أقصد هنا تعامل وزارة التجارة مع هذا الدمج ومتى ستستطيع الوزارة بكادرها العادي اليوم أن تنجز هذه الاندماجات وتوافق عليها. ثم يأتي دور كاتب العدل المسؤول عن الموافقة على التعديلات في عقود التأسيس. يوجد في وزارة التجارة مكتب عدل ولكنه غير مهيأ لمثل هذه المراجعات ولا أتصور أن بإمكانه مباشرة هذا العدد من العقود التأسيسية وإنهائها قبل نهاية نصف القرن الحالي.

لذلك ومع كل التفاؤل المأمول والهمة والتطلع إلى منافسة الشركات الكبرى العاملة في قطاع الإنشاءات وهي بالمناسبة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وعيني عليهم باردة كما يقال، فإننا نتطلع إلى ميلاد هذا الكيان القوي المأمول في العام 2030م على أفضل الأحوال. السؤال الذي يلقي بكاهله على هذا المخطط الطموح: هل ستبقى مشاريع في ذلك الوقت تعادل ولو حتى عشر المشاريع الحالية؟ لا أظن أننا كدولة سنستمر في الإنفاق على قطاع الإنشاءات الحكومية على هذه الوتيرة إلى الأبد. لذلك فإن الخوف الحقيقي أن نتيجة هذه الاندماجات عندما تنتهي ستكون مخيبة للآمال. وقد تصبح الحاجة عندها إلى وجود شركات صغيرة ومتوسطة أكثر من الحاجة إلى وجود هؤلاء العمالقة. قد نفكر عندها بالدخول مجدداً في كتاب جينيس من خلال تجزئة الشركات العملاقة إلى صغيرة. لو فعلنا ذلك فستأخذ العملية وقتاً أطول قد يستمر لثلاثين عاماً. السبب أن التجزئة ستتطلب مفاوضات شاقة انطلاقاً من التقييمات. كل مقاول صغير ينوي الانفصال سيحاول الحصول على أكبر تقييم وهكذا. إذاً نحن في الواقع قد أمضينا 50 عاماً مابين الاندماج والفصل ولا أظن أن أي منا سيجد صعوبة في التنبؤ بمصير خطة كهذه.

بعيداً عن السخرية بهذه الخطة المجنونة وغير العملية، مشكلة الاحتكار القائمة قد تحلها الاندماجات وقد لا تحلها. لكن الحل الأنجع في نظري هو الذي يعتمد على الإجراء السريع. إنه إجراء يبدأ من الأصل. على الجهة المستفيدة من المشروع تجزئة هذا المشروع الجديد إنشائياً وهندسياً أثناء التصميم وترسيته على طريقة التجزئة أو ما يسمى في صناعة البناء Packages بحيث يتم قبول العروض من الكثير من الشركات التي لا يقبل بها اليوم قبل التجزئة لأسباب تصنيفية. التحدي الذي يصاحب تنفيذ مثل هذا التوجه هو الحاجة إلى تأسيس إدارة للمشاريع داخل كل جهة مستفيدة أو اللجوء إلى التعاقد مع جهة تتولى هذه الإدارة نيابة عن المستفيد. لو فعلنا ذلك لتخلصنا من استبداد الشركات الكبرى. تجزئة البناء حقيقة ليست جديدة ولا اختراعا صاروخيا فضائيا. المقاول الرئيس الذي يحظى اليوم بهذه المشاريع الكبرى يجزئها بنفسه ويمنح العديد من مقاولي الباطن عقودا تتناسب مع إمكاناتهم. الفرق هنا أن المقاول الرئيس هو الذي ينال الربح المادي فوق مكاسب هؤلاء بينما يحرم المستفيد من فرصة التوفير.

لنأخذ على سبيل المثال أي مشروع ضخم يقام اليوم في المملكة. جامعة الأميرة نورة في الرياض على سبيل المثال. كان بإمكان وزارة التعليم العالي على افتراض أنها هي الجهة المستفيدة والمشرفة أن تستعد لتنفيذ هذا المشروع الضخم عبر تجزئته. ولو فعلت ذلك فلربما حققت بعض الوفر أيضاً في التكاليف مع المحافظة على مدة التنفيذ. تجزئة مثل هذا المشروع تعني ترسية الأجزاء على أكثر من عشر شركات متخصصة قد تكون متوسطة الحجم بحيث تنال كل شركة نصيبها حسب تخصصها. الرهان هنا سيكون كما أشرت على قدرة الوزارة في إدارة أعمال هؤلاء المقاولين عن طريق توظيف إدارة قادرة على ا لتنسيق بين هؤلاء وقيادة المشروع إلى بر الأمان في الزمن المحدد. هذه مجرد خطة بديلة لكنها سريعة ولا تتطلب أي وقت للانتظار.

في النهاية أنا أقدر فكرة الاندماج من حيث التوجه لفك الاحتكار وانتقادي لها هنا أتى من نواحي عملية ولوجستية فقط كما أوضحت لكم. الحلول ضد الاحتكار متنوعة وعلينا قبل كل شيء الاعتراف بوجوده وضرره على القطاع ثم النية الصادقة في التخلص منه يلي ذلك مباشرة إجراء دراسات عالية الجودة ومحددة الأهداف تفضي إلى حلول لفك هذا الاحتكار. لو فعلنا ذلك لتفتحت أمامنا أبواب عديدة وذات صبغة آنية للتخلص من هذه الظاهرة مرة واحدة وإلى الأبد.