بالتنسيق والتزامن مع مجلة «الأقلام» العراقية، تنشر «الوطن» حوارًا موسعًا يشخص فيه الكاتب والأكاديمي والناقد الدكتور عبدالله الغذامي النقد الثقافي، ويؤكد أنه يتعامل مع الأنساق في تحول عميق يجعله مختلفا عن النقد الأدبي، موضحًا أن أدونيس عدّ هذا النقد بمثابة الكارثة لأنه كشف نسقيته ورجعيته الحداثية.

ورأى الغذامي في حواره أن النقد الأكاديمي مكانه الجامعة وقاعة الدرس وبحوث الرسائل والترقيات المشروطة كلها بالوصاية، وأن وهج أي فكر لا يأتي إلا من مشاغبته للسائد وإشعاله الحرائق من حوله.

أدونيس غضب من رجعيته الثقافية


الأقلام:

في الحوار الذي أجرته مجلة الأقلام لأدونيس ذكر عبارة قال «أرجو أن يسامح الشعر صديقه عبدالله الغذامي» بماذا تفسر هذه الجملة؟.

الغذامي:

ـ لا أظنني سأسعى لتفسيرها فالصديق أدونيس مذ صدور كتابي النقد الثقافي عام 2000 وردود فعله على الكتاب تتراوح بين الغاضب جدًّا والغاضب نسبيًّا، وأول رد فعل منه كان عبر رسالة شفوية نقلها لي أصدقاء مضمونها «من بين مليون عربي من الخليج إلى المحيط هل عجز عبدالله الغذامي أن يجد رجعيًّا حداثيًّا غير أدونيس»، وهو يحيل هنا لمقولتي عنه بأن (أدونيس يمثل الحداثة الرجعية) بسبب نسقيته الثقافية الفحولية التي كانت مادة الفصل السابع من كتابه، ثم ظلت ردود الفعل تتوالى ما بين فترة وأخرى وآخرها كانت لديكم في لقائكم معه، والغالب على تعليقاته كلها أنها حالات رد فعل فقط لأنها لا تأتي إلا حين يكون في ملتقى ثم يحرجه سؤال عن نقدي له، فيضطر لقول إجابة غير مدروسة، وتتصاعد إجاباته أحيانًا وتلين أخرى، حسب درجة الحرج الذي يواجهه، ويظل الأمر فيما يخصني أمرًا طبيعيًّا يحدث من أي منقود تجاه ناقده، وقبله قال المتنبي (وعداوة الشعراء بئس المقتنى) ونعرف كذلك أجوبة أشد قسوةً رويت عن الفرزدق تجاه ناقدي شعره، وستظل هذه كلها من طرائف الثقافة التي لا يخلو منها أي جيل ثقافي قط، ولم يسلم أدونيس من أن يواجهه سؤال عني في أي مناسبة يحضرها، وحتمًا سيبتكر كل مرةً إجابة تختلف عن سابقاتها، وصرت أتشوق لسماع المزيد منه منذ عام 2000 حتى الآن في سردية أصبحت عندي متوقعة، والمختلف فيها هو نوع القول لا غير.

الأقلام:

في الحوار نفسه، كانت بعض إجابات أدونيس حينما سئل عن النقد الثقافي «لم يعجبني، لأنني لم أرَ فيه إلا منهجا يفهم الشعر بعقلية مؤسسية ويرى أن الثقافة في جانبها الشعري الخلاق مجرد مجموعة من الكتب والجمعيات والأحزاب والأيديولوجيات.. إلخ»، كيف تنظر إلى رؤية أدونيس هنا؟.

الغذامي:

يكفيني أن أضع هذه الفرضية التي كان أدونيس يتمناها مني وهي: ماذا لو أنني جعلت أدونيس في كتابي نموذجًا للشعر المختلف وبدلًا من الإشادة بدور نازك الملائكة والسياب في مسارهما في تحدي النسق الفحولي ليس في جانبه العروضي الشكلي فحسب، وإنما أيضًا في أنساق الخطاب نفسه، ماذا لو نسبت ذلك لأدونيس وليس لهما أو لشعراء آخرين مثل محمود درويش.. كيف سيكون موقفه من النقد الثقافي حينها؟، أما حين يكشف النقد الثقافي نسقية أدونيس ومن ثم رجعيته الحداثية فحتمًا سيكون النقد الثقافي كارثةً في نظره، وسيكون بئس المقتنى على ناقد الفحل الشعري.

التطهير الفكري في المؤسسات الأكاديمية

الأقلام:

كيف يرى د. الغذامي صمود النقد الأدبي أمام مقولات مبكرة كان الغذامي قد أطلقها منذ بزوغ مشروعه في النقد الثقافي، وقد بشّر فيها بموت النقد الأدبي؟.. لم يمت النقد الأدبي ولم يتلاشَ، ولم يفتر أوار أطروحاته في الجهدين الأكاديمي وغير الأكاديمي، بماذا يفسر ذلك؟

الغذامي:

قلت بموت النقد الأدبي (وظيفيًّا)، بمعنى أنه سيظل له وجود أكاديمي، والوجود الأكاديمي أمر ضروري تفرضه الجامعات أولًا، ليس على الطلاب فحسب بل أيضًا على الأساتذة وشروط قبول بحوثهم وترقيتهم، ولو أني مثلاً قدمت كتابي النقد الثقافي للترقية العلمية عام صدوره لواجهه الرفض من لجان التحكيم ومن المجالس العلمية، ولكن النقد الثقافي الآن أصبح مضمارًا للبحوث الجامعية وللرسائل، وهنا نفهم أن النقد المختلف في مفاهيميته وإجراءاته لا يتم التراضي حوله لدى المؤسسة إلا بعد إثباته لوجاهة مقولاته، ورغم هذا فستظل المؤسسة تقاوم ضد المختلف ومثال جامعة ييل في أمريكا ماثل وبشكل صادم وهي الجامعة التي تبنت النقد التفكيكي ومنهجية ديريدا ابتداءً، ثم انقلبت عليه ومنعت البحوث فيه وأرغمت الطلاب على تغيير أطروحاتهم أو ترك الدراسة في الجامعة، وهذا نوع من التطهير الفكري مثله مثل التطهير العرقي، لأن المؤسسة قد تلين حيناً ولكنها تسترد سلطتها بعد ذلك، على أن المهم قوله هنا هو أن النقد الأدبي ومعه البلاغة ضروريان للتدريس والتدريب المنهجي، لأن النقد الأدبي له تاريخ عريق في صناعة المصطلحات، وكان واحدًا من أهم مجالات صناعة المصطلح في تاريخ الثقافات كلها، وهذا تراث يجب تدريسه وتثقيف النشء فيه، غير أن الذي فعلته أنا مع مصطلحات النقد الأدبي هو أني وظفتها توظيفًا يطورها لكي تتسق مع شروط مفاهيم النقد الثقافي فأخذت بمصطلحات التورية والمجاز والجملة الأدبية وعناصر الرسالة، وجعلتها تتحول إلى النقد الثقافي بعد تعديلات جوهرية مثل المجاز الكلي، والتورية الثقافية، والجملة الثقافية، والوظيفة النسقية، وهذا تحول نوعي في المفاهيم وفي الإجراء، وهنا أقول إن موت النقد الأدبي تعني موته وظيفيًّا؛ إذ ليس هذا النقد بقادرٍ على كشف الأنساق وتظل جدواه فقط في قراءة النصوص، وليس الأنساق، والنقد الثقافي هو الفعل الحيوي ثقافيًّا وليس أدبيًّا، ويمثل ضرورة عصرية وتحولًا معرفيًّا ومن ثم يقدم وظيفة مختلفة اختلافًا جذريًّا للتحليل والكشف والحفر عن النسقيات الثقافية.

النقد الثقافي كارثة

حسب رؤية أدونيس لأنه كشف نسقيته


الأقلام:

في كتابكم «القبيلة أو القبائلية» هل صار النقد يهيم على وجهه خارج النصوص، فينزع إلى القضايا الخلافية في علم الاجتماع أو الفلسفة؟ ثم لماذا هويات ما بعد الحداثة كمفهوم وعنوان فرعي؟

الغذامي:

النقد الثقافي يتعامل مع الأنساق وهذا واحد من التحولات العميقة التي تفرق النقد الثقافي عن النقد الأدبي، وموضوع (القبائلية) يتصل بنسق الهويات الجذرية التي تتحكم في الذهنية البشرية، ومصطلح القبائلية لا يعني القبيلة مثلما أن مصطلح الشعبوية أو الشعوبية لا يعنيان الشعب، وإنما لكل واحد من هذه أبعاد تحيل إلى النسقيات الثقافية التي من طبعها الكمون، ولكنها تنتظر فرصًا للخروج من مكامنها، وحين انتشرت الشموليات الكبرى سواء الشمولية الماركسية أو شمولية العولمة الرأسمالية تحركت الهويات الجذرية التي كانت نائمة تحت دثار العقلانية والتنوير، فحركتها الشموليات التي تلغي الخصوصيات، ومن ثم لجأت الذواكر الثقافية إلى جذورها للاستعانة بها لمواجهة الذوبان المعولم سواء من الليبرالية الرأسمالية أو الشمولية الماركسية وهما معًا تذويب للخصوصيات وفرض لنموذج كوني معولم، وجاءت الهويات الأولية كرد فعلٍ على العولميات الساحقة للخصوصيات، فأعلنت عن نفسها بصورة مماثلة في التطرف، كما نرى ذلك ببروز الطائفة والقبيلة والعرقيات والمذهبيات، وهذه حالة صراع بين أنواع من الاستقطابات والاستقطابات المضادة، مع انكشاف صارخ للنسقيات التي كانت في حال السكون أو في حال الخجل عن الإعلان عن نفسها، ولكن تجرأ الكل لإعلان المضمر والتصرف تبعاً لمقتضاه، والسبب هو فشل الوعود الكبرى وتمخضها عن وهم خداع، ومن ثم جاء دور النقد الثقافي لكشف الخطاب، وهو أحد خطابات ما بعد الحداثة من حيث تكثف حضوره في مسارات المآل البشري سلوكًا وخطابًا، مما جعل التنوع الفسيفسائي للبشر يبرز تحت وقع تحديات النموذج الشمولي الصاهر للخصوصيات بتذويبها في مفهوم واحد جامع، بينما النفس البشرية غير قابلة للدمج المطلق، وإذا أعياها التنوع الثقافي الطبيعي لجأت للجذور العميقة لتحتمي بها، وهذا هو الحادث الآن في كل بقاع العالم، والشعبوية في أمريكا وأوروبا واحدة من وجوهه، ومثلها وجوه تعم الكون تحت معنى التفرد والجذر والأصل، وهذا يحتاج للنقد والتحليل.

بعض الجامعات تمارس تطهيرًا فكريًّا ضـد المختلف يماثل التطهـير العرقي

الأقلام:

في الدراسات الحديثة، لم يتوقف مشروع الدراسات الثقافية عند حدود الأنساق القبيحة وعيوبها، إنما عبرها إلى الثقافة الشعبية وتفكيك أنساقها القارة، كيف ينظر الغذامي اليوم إلى ما يشاع في الثقافة العربية من تركيز النقد الثقافي على تلك العيوب دون الالتفات إلى أهمية الثقافة والثقافوية في تلك الدراسات؟

الغذامي:

السؤال الذي تفضلتم به يحيل للنقد الثقافي حصرياً، فتفكيك الأنساق كما ورد في سؤالكم هو وظيفة النقد الثقافي، والأنساق ليست جماليات وإنما هي قبحيات ثقافية مثلها مثل الفيروسات التي تخفى ولا نعرفها إلا عبر علاماتها، ثم تحتاج لبحث معمق لكشف مكوناتها، ومن ثم السعي لابتكار لقاحات تواجهها، وهذه عملية تشبهها عمليات بحوث النقد الثقافي من كشف المضمرات الثقافية التي تصيب الثقافة بأمراض معنوية ورمزية، ولكن يجب التنبه هنا إلى الفارق بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية وهو فارق منهجي، فقد يتشابهان في ملامسة موضوعات متماثلة غير أن للنقد الثقافي منهجيةً منضبطةً متقنة حددت معالمها في الفصل الثاني من كتابي، وطبقتها في بحوثي كلها بدءًا من المرآة واللغة بأجزائه الخمسة مرورًا ببحوثي في الثقافة البصرية وثقافة الوسائل إلى دراسات في نقد العقل، وهي ثلاثة كتب آخرها كتاب (مآلات الفلسفة) وينطلق من مقولة (موت الفلسفة) كما طرحها ستيفن هوكينج، وعن مأزق العقل والعقلانية، وهو مبحث حيوي اليوم، وتتولى النظرية النقدية دوراً مهما في التحول المعرفي بواسطة بحثية ومنهجية عبر النقد الثقافي ومنهجياته.

الأقلام:

لم تعد لغة النقد معنية بالتحليل وتفكيك المقصديات والخوض في الجماليات والقبحيات فحسب، إنما صارت لغة إبداعية موازية للنصوص التي تشتغل عليها؟ هل تخلى النقد عن اعتداده القديم؟

الغذامي:

بجملة واحدة أقول إن ظلّ النقد، أي نقد، كما حاله القديم فهو إذن في حكم الميت، ولهذا جاءت ضرورة ووظيفية النقد الثقافي لتعيد للنظرية النقدية حيويتها وشرطية حضورها لمواجهة تحديات التحولات الكبرى في الثقافة البشرية، وأهم شروط ذلك هو التحليل والتشريح وكشف ثغرات الخطاب.

البيت الأكاديمي هو بيت الطاعة

الأقلام:

في أطروحاته الأخيرة وفي أكثر من مناسبة، يهاجم الغذامي البحث الأكاديمي الذي يتسم بالصرامة والأصول العلمية كما نعرف، ويشيد كثيرا بالبحث الحر الذي لا يخضع لتلك الأصول الصارمة، نعتقد أن هذا الأمر ينطوي على نوع من الالتباس، وربما كان القصد يختص بتلاقح المناهج وتداخل بعضها ببعض.. هل بالإمكان توضيح ذلك؟

الغذامي:

النقد الأكاديمي مكانه الجامعة وقاعة الدرس وبحوث الرسائل والترقيات المشروطة كلها بالوصاية الأبوية من مشرفين ومحكمين ومقومين، والباحث هنا بمثابة التلميذ المتعلم أو المدرس المعلم إن كان محكمًا، وكل باحث يتقلب بين تلميذ تحت النظر إن كتب بحثًا أو معلم ينظر في عمل غيره ليحكم عليه، وهذه وظيفة أكاديمية ضرورية للمؤسسة الجامعية ولا تستقيم الجامعة إلا بها، وهي تعلم وتدرب وتقوي متن الباحث وتربيه على طاعة الأب الوصي الثقافي عليه، ومن ثم فهذا ليس فضاء لحرية التفكير، ومرة أمسكت بكتابي (المرأة واللغة) أمام طلابي في قاعة الجامعة، وقلت لهم: (انظروا لهذا الكتاب لو قدمته للتحكيم في المجلس العلمي في الجامعة لرسب بإجماع المحكمين، لأنه كتاب ضد المؤسسة بكل تشرطاتها، ولن تتقبله شروط المؤسسة بمثل ما رفضت طه حسين في زمنه)، كنت أقول ذلك لكي يميز الطلاب بين التفكير الحر والتفكير المشروط، وكنت حينها قد خفت عليهم من مجاراة منهجي الفكري المتمرد فيؤدي بهم ذلك لأن يكونوا ضحايا للمؤسسة، بينما نجاحهم مشروط بالالتزام بقيود بيت الطاعة (أقصد البيت الأكاديمي)، وهناك أعراف تقليدية عن الروب الجامعي والروب الطبي والروب القضائي، وهي لبوسات تفرق حال لابسيها عن حالهم دونها، ما بين الالتزام بشرط المهنة، أو الحرية الفكرية، وكذلك هو لبوس الأكاديمية مقابل لبوس الفكر الحر.

النقد الثقافي يتعامل مع الأنساق

وهذا تحول عميق يفرقه عن النقد الأدبي


الأقلام:

في كتابكم المهم «ثقافة الوهم» وهو كتاب في صميم النسوية، وقد قدم مقاربات غاية في الخطورة، لكن ألا يعتقد الغذامي أن موضوعة المرأة العربية أعقد بكثير من تنظيرات مفكرينا وكتّابنا؟ ألا تتفق معنا أن معظم الدراسات العربية التي تداولت موضوعة الجسد واللغة كانت تسعى للتنظير لا إلى التطبيق؟.

الغذامي:

شأن الباحث هو كشف العلل النسقية ومن ثم التأسيس لوعي مختلف يتيقظ لعلل ويضعها أمام باصرته، وهذا حد الباحث، أما واقع الأشياء وشروط التعامل مع العلل فهو أمر معقد، وقد مرت البشرية بتجارب مهمة في سن القوانين التي تجرم العرقية وتعاقب على العنف اللفظي والجسدي، ولكن الواضح أيضا أن لغة القوانين والتشريعات تظل نصوصًا خاضعةً للتأويل وللعبة التطبيق، وهذه أيضًا هي نوع من المخاتلات العقلانية والثقافية حيث تتحكم الانحيازات الذاتية والفئوية في تفسير القوانين وفي ابتكار الحيل الماكرة مع حال التطبيق، وهذا ما ذكرته آنفًا عن كون النسق مثل الفيروس، والفيروس له حيل شتى في التحايل على اللقاحات عبر التحور والمقاومة، ومثل ذلك يحدث في الثقافة إذ يظل ما سميته بقانون (تاء/تاء) ويعني التوارث والتواتر، وكلما تتابع توارث خاصية ما وتواتر التقبل لها أصبحت وكأنها قانون طبيعي لا يقبل التغيير، ولذا نرى كل محاولات شجب الكراهية والعنصرية والطبقية، إلا أنها تظل فاعلة ومتنفذةً في التفكير وفي السلوك لدرجة أن الشاجب نفسه ستجده يمارس هذه المنكرات بطريقة أو أخرى وتكون مضمرة فيه كشرط لها أصلًا، وهنا يأتي الفارق بين التنظير بمثاليته والتطبيق بتعقيداته، وبيدنا أن نصنع قوانين للمساواة والعدالة ولكن الأمر في النهاية يذهب لمواجهة التحديات المتجذرة كأنساق ثقافية صلبة ولها قدرة على مقاومة النظريات مهما كانت قوتها.

أنا وأنت سبب غليان الأرض

الأقلام:

في كتابك الليبرالية الجديدة، تحدثت عن نظرية الاحتقان وأخذت أمثلة عديدة من بقاع مختلفة في العالم، تضمّنت حوادث شهيرة، ولكنّ بعض الآراء رأت الغذامي في هذا الكتاب متشائمًا ويميل أحيانًا إلى تفخيم وتهويل الأحداث، حتى ليظن القارئ أنه إذا خرج إلى الشارع سيجد الكرة الأرضية تغلي وتوشك على الانفجار، ومع هذا لا يتغير شيء فعليّا، ما السبب؟ وماذا يحتاج العالم كي يُحدث هزة حقيقية للتغيير بعد كل هذه الثورات والتضحيات؟.

الغذامي:

نعم سترى الكرة الأرضية تغلي، وهي تغلي فعلاً، والعيب ليس فيها وهي لم تشعل نفسها، وإنما العيب في الإنسان ذاته، والحلول عند الإنسان لسبب بسيط وهو أن المشكلة أصلًا منه، وأنا وأنت شريكان في ذلك وكل واحد منا يجني على الحياة العامة بطريقة أو بأخرى، تماماً كما أن كل واحد منا يتشكى من أوضاع العالم حسب اللغة التي يتقنها، والناقد بيده أن يكتب كتابًا ينقد فيه التوحش البشري مثلما أن السياسي صاحب القرار يعرف المشكلة كما نعرفها ولا يتردد أن يخطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسيقول ما نقوله نحن من أفكار عن مآسي الكرة الأرضية ولكنه سيخرج بعد ذلك لمكتبه وهو يعرف أن تحت أصبعه كلمة سر لو ضغطها لتفجرت لضغطته قنبلة نووية تدمر وتقتل، ولقد خطب جو بايدن في مؤتمر المناخ في جلاسكو (نوفمبر 2021) خطبةً رنانة عن البيئة وحماية المناخ وبعد خروجه من المؤتمر راح يضغط على دول أوبك+ من أجل زيادة إنتاج النفط مع أنه كان يدعي أن النفط الأحفوري هو سبب تلوث المناخ، هنا نتعرف على الجاني الحق الذي هو الإنسان إذ يرجح مصلحته على مصلحة الكون بمجمله، وهذا مثال لا يخص بل يعم الكل، هنا المأساة التي حاول كتابي عن (الليبرالية الجديدة) تشريحها وتعريتها وتعرية مفاهيمها اللاإنسانية، وسلاحي هو سلاح الناقد مثلك ومثلي الذي يتحمل مسؤوليته المعرفية والضميرية في أن يكشف عوار الخطاب ونسقيته بين ظاهر جميل ومضمر قبيح.

الأقلام:

مقولات كثيرة تنهمر بغزارة عن تهاويّ القيم الرأسمالية، بشّرت بنهايات وشيكة تحاصر الليبراليّة بكل أبعادها، الغريب أننا لم نشهد حتى الآن تطابقًا حقيقيًّا بين الذي قيل وكُتب وبين الذي يحدث على سطح الواقع، متى يمكن للعالم أن يلمس نتائج تلك الهِزات والصدوع؟

الغذامي:

المحزن أن الصدوع واضحة للعيان ولكن علاجاتها جاءت على مبدأ (وداوني بالتي كانت هي الداء) فظهرت تحت هذا الفهم نظرية الشعبوية التي تعود بالبشر إلى الجذور الأولى وجاءت فكرة (المواطن الحقيقي) في أمريكا وأوروبا والتي تحصره بالرجل الأبيض وأنه وحده المواطن وغيره في حكم (الآخر) وشعار (حياة السود مهمة) الذي بدأ في أمريكا ثم تحرك في أوروبا هو رد فعل ضد الجذرية الشعبوية وضد الليبرالية الرأسمالية، وسيظل الصراع على مستوى الوعي والنضال السلمي وعلى مستوى النقد الثقافي لتعرية جنوح الثقافات اليوم نحو النسقيات، وهذه هي أسلحة التصدي السلمي للتوحش الرأسمالي وسلطة القوى العظمى التي صنعت التحيزات العظمى، فخلقت العنف الثقافي المتبادل وبمثل ما ظهرت العولمة الكاسحة ظهر الإرهاب الأعمى وكلاهما شر، ومبني على نظرية (داوني بالتي كانت هي الداء). على أن الكشف والتعرية للأنساق في زعمي وفي نظريتي هو واحد من أهم وظائف الفعل الثقافي اليوم، وهو ضميرنا الأخلاقي والعلمي معاً.

الأنساق فيروسات ثقافية

الأقلام:

في كتابك النقد الثقافي، تحدثت بالتفصيل عن التشكلات الثقافية والأنساق المضمرة التي كانت واحدة من أهم المخرجات السلوكية المنعكسة في خطاب النص الشعري. ولكنّ ألا تظن بأن بعض تلك الصفات الممقوتة كالصفات الشهوانية الجامحة التي تنطوي عليها نصوص نزار وغيره هي صفات بشرية أيضًا، ويحتاج النص الشعريّ إلى عرضها والتعبير عنها بدل التعامل معها بطريقة قد تنحو باتجاه المثالية التي تجرّد الإنسان من بشريّته؟.

الغذامي:

بلى هذا تساؤل صحيح، والظاهرة تنطوي على ملمح بشري ولا ريب في ذلك، ومثلها مثل الفيروسات، والفيروسات مظهر طبيعي أيضًا ويلازم الحياة والوجود ولكن العلم يجري وراء الفيروسات ويحاول قراءة علاماتها وقراءة سيرورتها وتحولاتها ثم يشرع في البحث عن لقاحات تكافحها، وكذلك الأنساق فهي فيروسات ثقافية من شرط الناقد أن يكشف عنها ويعريها ومن ثم يجهر بالتشهير بها، رغم غطاء الفحولة الصارخ الذي تتسلل الأنساق من تحت إهابه لكي تمر وتعبر نحو الذهنيات وتستقر فيها آمنةً ومحصنةً ضد الناقد المتطفل عليها، والمثالي هنا هو البحث عن أعذار للفحول لجعلهم فوق النقد وفوق العيب، وتجعل عبقريتهم وجمالية لغتهم سببًا لجعل صنيعهم مبررًا ومقبولًا، وهذه سلطوية ثقافية تقع فيها الثقافات تحت خدعة العبقرية والفحولية والجمالية.

إن ظل النقد كما حاله القديم فإنه إذاً في حكم الميت

النقــــد الأكاديمـي مكانه الجامعـة وقاعـــة الدرس وبحوث الرسائل والترقيات المشروطة كلها بالوصاية

كثر المغنون وقل الفن


الأقلام:

ما السبب الذي أدّى إلى ظهور شريحة واسعة من الشعراء، يكتبون قصيدة النثر، ولكنّ مضامين النص عندهم تنطوي على خطابِ شاعرٍ تقليديّ جاهلي؟ مثل أن تُستخدم في المديح والهجاء أو الرثاء غالبا؟

الغذامي:

أما الرثاء فلا شك أنه خطاب إنساني وجداني وعميق وهو قيمة معنوية وأخلاقية عالية تتجلى فيه الروح البشرية بأدق حالاتها، ولن أستنكر مجيئه بأي صيغة تعبيرية بدءاً من الدموع تنهمر من العيون في خطاب تعبيري يربط بين العبرة والعبرة بفتح العين وكسرها، والعين حتما ستكون عين الإنسان وعين الكلمة، وسنراه في قصيدة النثر وغيرها من صيغ الخطاب، أما غير ذلك من مثل تقمص نسق الخطاب الجاهلي أو لنقل نسق العمودية التقليدي فهو يرد بأبرز ما يكون في قصيدة التفعيلة وقد ظهرت قصيدة التفعيلة أول ما ظهرت في العراق منذ مطالع القرن العشرين، وتم رصد نماذج مبكرة لهذه النصوص لكنها كانت نصوصًا تقليدية أخذت بنظام تفعيلي، ولم تكن تجارب نازك والسياب جديدة من حيث كونها مجرد تحول من البحر إلى التفعيلة عام 1947 فهما معًا مسبوقان في ذلك التحول الشكلي، ولكنهما معًا أحدثا التحول النوعي عام 1948 وقد عرضت لهذا التحول النوعي الذي هو كسر لنسق الفحولة وتأسيس لخطاب شعري متجاوز في كتابي (تأنيث القصيدة)، ولكنك ستجد في العالم العربي حتى اليوم شعرًا يعتمد التفعيلة شكلًا لكن نسقه تقليدي ويشيع هذا بكثرة، ولعل وما ذكرتموه في سؤالكم عن قصيدة نثرٍ تقليديةٍ يدخل في هذا النمط الذي هو محاكاة للتغيير دون تحقيق شروط التحول، وهذا مظهر ثقافي يتصل بحالة الإعجاب بخاصية ما، دون التمكن من حقوقها، ويحدث هذا في كل الفنون ويبرز بوضوح صارخ في الغناء، حيث يكثر المغنون والمغنيات ويقل الفن إلا عند ذوي المواهب، ومثله حال الشعر وقد استخدمت مرة عبارة (الجواهرجية والدراويش) محيلًا لشعر غير قليل يظهر محاكيًا للجواهري أو محاكيًا لمحمود درويش، وقد يفتنك ابتداءً ثم يتكشف لك أنه مجرد مرآة عاكسة لنص جواهري أو درويشي، وفي كل فن عظيم تزداد المحاكاة مثلما يزداد الإبداع على أن الناقد والذواقة لن يفوتهما التمييز بين وبين.

الأقلام:

في زخم التطور التكنولوجي السريع، والسفر باتجاه حقبة يحكمها الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأحدث في «الموجة» القادمة، شهدنا خيالات إبداعية قديمة كان يُنظَر لها على أنها محض خيال لا أكثر، ولكنّها أصبحت قيد التجسّد اليوم وتحوّلت إلى وقائع ملموسة، وهذا ما يجعلنا نتساءل ببساطة، هل وصلنا إلى مرحلةِ أن كل خيال إبداعيّ إذا شاء العلم أن يجسّده سيفعل بكل سهولة؟ ثم إلى أين سيؤول مصير مصطلح مثل مصطلح «الخيال العلمي» في ضوء هذه التحولات؟

الغذامي:

لا شك أن العلم أساسه الخيال، والخيال هو مصدر كل فعل بشري ذي قوة متجاوزة، ونحن نعيش في منطقة الأعراف بين الواقع الذي نشهده والخيال الذي يتحرك في أذهاننا، وقد حلم أجدادنا الأولون ببساط الريح الذي ينقلهم في الهواء وعبر الفضاء إلى حيث تتوق نفوسهم، ثم جاء المخترع البشري للطائرة، وفي أحلامنا نرى أنفسنا نطير ثم طرنا واقعيًّا، ومصطلح الخيال العلمي أصبح حقيقةً بحثية ومحفزًا للاكتشاف وسبر المجهول والمتمنى، على أن الذكاء الاصطناعي هو (العقلانية الجديدة)، وقد تتبعت هذه الفكرة في كتابي (السردية الحرجة)، وقد تحولت العقلانية الفلسفية التقليدية إلى عقلانية جديدة عمادها منطق جديد في الرقمنة والرياضيات والحاسوب، حيث يجري تحليل العمليات والبيانات وبناء الرؤى الافتراضية والخيالية لامتحان إمكاناتها، وفتح سبل تحققها.

الأقلام:

هل بإمكانك مشاركتنا ببعض التصورات حول مصير الأدب والثقافة في المرحلة القادمة التي من المرجّح أن تهيمن عليها الثورة الصناعية الرابعة؟ وهل يمكن أن يتغير شكل الكتابة النقدية والروائية مثلًا وغيرها من تصانيّف الإبداع نتيجة لتغيّر المركزيات وما حولها وصولًا إلى ارتداداتها على حياة الفرد والمجتمع؟

الغذامي:

طرح ديريدا تصورًا عن الحداثة الفرنسية، وقال إن الحداثة الفرنسية تقوم على ثلاثة أركان هي (الفلسفة والسياسة والأدب)، وهذه هي فكرة (فلسفة ما بعد الحداثة)، وهي تحيل إلى تحول الفلسفة إلى (النظرية النقدية) أو (النظرية) بعبارة مطلقة دون تقييد، وقد عرضت لتفصيل ذلك في كتابي (مآلات الفلسفة) وبعنوان فرعي هو (من الفلسفة إلى النظرية)، وقد سبق أن قال ريتشارد رورتي ومعه جوناثان كولر بضرورة تحول الفلسفة إلى النظرية، وأضيف لذلك مقولة الذكاء الاصطناعي بوصفها العقلانية الجديدة، وعبر هذه المنطلقات فإن مستقبل الفكر النظري البشري سيكون في (النظرية)، وهي التي تمناها وتطلع لها ستيفن هوكينج تحت عنوان (نظرية كل شيء)، تلك التي تفسر لنا لماذا نحن هنا وما موقعنا في هذا الكون العظيم وما وظيفتنا، ولعلي تتبعت هذه الأطروحة ووضعتها في موضع التصور، (وأحب أن أشير إلى أن كتابي هذا في موقعي Alghathami.com )، وقد وضعت كتبي كلها في هذا الموقع تيسيرًا لوصول القراء والقارئات للتحميل القانوني والمجاني، وقلت في مناسبة سابقة إنني أؤمن باشتراكية الثقافة وليس برأسماليتها، وعساني فعلت ذلك حقيقةً وليس مجرد شعار.

الوردي في صف الجهيمان

الأقلام:

كثيرًا ما تعرض الغذامي لانتقادات من بعض الكتاب العراقيين حول النقد الثقافي وأصوله التي أدلى بدلوها الأول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، كيف تنظر لتجربة الوردي فيما يخص رؤيته للنقد الثقافي؟.

الغذامي:

لكي نتحدث عن الوردي يجب أن نضعه في صف الجاحظ وطه حسين وعبدالكريم الجهيمان، هذا أولًا، ثم ثانيًا لا بد أن نضع الجميع هنا تحت عنوان الدراسات الثقافية (وليس النقد الثقافي) من حيث إن النقد الثقافي يعتمد نظرية تخصه ومنهجية يعتمدها في حين ليس هناك نظرية محددة ولا منهجية معتمدة لدى الدراسات الثقافية، وهذا يشبه التفريق النوعي بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، فقد يشترك الاثنان في الوقوف على نص للمتنبي ولكنهما سيفترقان نظرياً ومنهجياً ووظيفياً؛ من حيث إن أحدهما يقف على نصوصية النص والآخر سيذهب للنسق المضمر الذي يبطنه النص، وكذا الحال مع الدراسات الثقافية التي تقف على حال الثقافة وتضعها على محك النظر ولكنها لا تحفر عن الأنساق المضمرة والثاوية تحتها، كما هي حيثيات النقد الثقافي (وقد فصلتها في الفصل الثاني بعنوان النظرية والمنهج)، وإن كنا كلنا نعرف طه حسين والوردي فقد لا يعرف الجميع الجهيمان وكتابه (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية) وفيه دوّن حكايات المجتمع النجدي من ألسنة العجائز والشيبان والرواة وكتبها بلغة وسطى بين الفصحى والعامية، ومن ثم اجترح لغة وصفتها من قبل بأنها (تفصيح العامي وتعميم الفصيح)، وكذلك وضع ذاكرة المجتمع في سردية كاشفة كما كشفت ألف ليلة وليلة مقام الأنثى في الثقافة، وقد وضع الجهيمان مقام المجتمع النجدي في مشهد سردي كاشف، تمامًا كما وضع الوردي المجتمع العراقي في كاشف يكشف الذهنية الثقافية والسلوكية وكشف معها أحوال كل المجتمعات العربية المماثلة للحالة العراقية بين خط التماس فيما بين البداوة والحضارة والمدنية والريفية، مما هو ريادة مذهلة ومغرية وتدخل بعمق في حقل (الدراسات الثقافية)، وهي التي نراها في (مدرسة بيرمنجهام) للدراسات الثقافية، ولكن هذا ليس من حقل النقد الثقافي، وقد أشرت لجهود الوردي المهمة جدًا والمختلفة نوعيًّا عن دراسات التاريخ وعلم الاجتماع لتتحول لبحث في الثقافة نفسها بوصفها منتجةً للتاريخ وللاجتماع، وقد حضر عندي الجاحظ والجهيمان وطه حسين بإفاضات واسعة بمثل ما أن الوردي حضر في كتابي وعن استحقاق كامل.

ومن المهم أن أشير إلى أن الذين يخلطون بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية هم الذين لا يلتفتون للفارق النظري والمنهجي بينهما، وهم الذين أيضًا يذهبون مذاهب شتى بالقول والحكم بأحكام قد تسيء لمقامات من نحبهم ونحتفل بأعمالهم عبر وصفهم بغير منجزهم وهذا أمر يسيء لهم، كما في المثل (من مدحك بغير ما فيك فقد ذمك)، والوردي علم بارز في حقل الدراسات الثقافية، ولكنه وكما ذكرت في كتابي لم يخط ُنحو طرح نظرية أو منهجية تحسب له، وهذا لا يقلل من مقام عمله ولا منجزه.

النقد الثقافي يموت في الجامعة

الأقلام:

تأتي مناهج وتمضي.. تولد نظريات وتموت.. ثم تنبثق رؤى جديدة لمناهج ونظريات أخرى، وهكذا هو الحال. إلى أي مدى يمكن للنقد الثقافي أن يظلّ فاعلًا ومؤثرًا في ميدان الدراسات؟ وهل من المرجّح ظهور مناهج جديدة ستقوم بإلغائه بشكل تام أو جزئي على الأقل في قادم السنوات أو العقود مثلما حصل مع غيره؟.

الغذامي:

هذا سؤال مهم ومصيري، ولقد كان النقد الثقافي في أوج عزه حين كان يقابل بالرفض المؤسسي، ولكني أتخوف على النقد الثقافي من دخوله للجامعات وقبوله ليكون موضوع رسائل أكاديمية وبحثية، وظهور فكرة وظيفة جامعية بصفة أستاذ أو أستاذة النقد الثقافي، وهنا تأتي خطورة أن يتمأسس النقد الثقافي ومن ثم يتجمد، على أن وهج أي فكر لا يأتي إلا من مشاغبته للسائد وتعاليه على السائد والمؤسسي، وإن تمأسس الفكر تدجن وأصبح في طوع شرط المؤسسة، وسيظل ملتهبًا ما دامه يشعل الحرائق من حوله فإن تمأسس تروض وسكن، وأرجو ألا يقع النقد الثقافي في هذه العبودية المؤسسية وأرجو أن يظل خارج أسوار الجامعات، أما إن احتوته الجامعات وتوقفت عن محاربته فسيصبح مثله مثل النقد الأدبي ويقع في المصيدة.

الأقلام:

أخيرا يرى بعض الكتاب أن كتابك الشهير النقد الثقافي كان للعراق حصة كبيرة فيه؛ إذا حسبنا الجغرافية الحديثة جزءًا من هوية الأفراد، فقد أخذت نماذج مثل المتنبي والسياب وصدام حسين وحزب البعث، هل فعلا العراق عبارة عن نسق مضمر كبير؟

الغذامي:

العراق مخزن هائل للذاكرة العربية وإن كان عرب الحواضر في القديم يرسلون بنيهم للجزيرة العربية ليتعلموا الفصاحة من ألسنة صافية، وكذا قيل عن الكسائي إنه أفنى ما لا يحصى من المحابر لتسجيل لغة الأعراب الصافية بوصفها المخزن الصافي للغة العرب وتراثهم، فإن العراق قد تحول ليضم خلاصات الثقافات في المنطقة كلها، وظل العراق معطاءً والشعر خاصة ظل متدفقًا ومتصلًا رغم جفافه في الحقبة العثمانية في بلدان العرب الأخرى، لكن النجف ظل شاعريًّا، وقد تيسر لي الغوص في التراث الشعري العراقي في القرن التاسع عشر الميلادي برغبة من مشرفي في جامعة أدنبرة، وكنت حينها أهم أن أجعل أطروحتي عن نازك الملائكة عام 1972 وارتأى المشرف أن أعمل مهاداً تأسيسيا يبدأ بعرض للحال الشعرية العراقية في القرن التاسع عشر، ويكون مقدمةً بحثيةً تكشف منزلة نازك في خارطة الوعي الشعري الثقافي، وتبعًا لذلك هالني الثراء الشعري في العراق في زمن ما قبل اليقظة العربية الشعرية الحديثة، ورأيت نماذج غالبها نجفي تخالف ما كان يظن عن جفاف المنابع الشعرية في تلك الأزمنة، صحيح أنه شعر تقليدي ولكنه ثراء لافت لأي دارس، أقول هذا تجاوبًا مع سؤالكم وتأسيسًا لجوابي عليكم، على أني لم أعمد قط عن قصد ووعي أن أستحضر العراق في بحثي، ولكن الواضح أن العراق يحضر تلقائيًّا ودون تعمد، والتلقائي هو الجوهري بالضرورة، لأن جوهريته هي التي تجعله يحضر بقوة ذاتية منه وليس باستدعاء متعمد، وحتى اليوم فإنك لو نظرت في تويتر لوجدت اسم الجواهري وعبدالرزاق عبدالواحد ومعهما محمود درويش هي الأسماء التي تحضر بين التغريدات بصورة طاغية، ولن نتصور قط أن المغردين والمغردات يتعمدون استحضار هذه الأسماء عن وعي وتخطيط ولكنه حضور يأتي بقوة ذاتية دافعة، وهذا هو التلقائي بمعنى الجوهري، وهذه مزية للعراق، فكل بحث في اللغة ستسيطر عليه أسماء لعراقيين لا نشعر بعراقيتهم إلا لو تعمدنا أن نتساءل عن عراقية مراجعنا، ولكن وبكل تأكيد فإننا لا نفعل حين نستحضرهم ولا نسأل عنهم حين يحضرون لأن حضورهم ليس مشروطًا، ولكنه أمر لا خيار فيه تمامًا كما لا تختار أن تتنفس من هواء الصبا مثلًا، والأندلسي الذي يتغنى بصبا نجد لا يعرف نجدًا ولم يطأ تربتها ولم يتنسم هواءها، وكذا هو جوابي على سؤالكم، فالعراق في دم كل واحد منا وفي نسيج ذاكرته دون خيار أو اختيار، ومرة أخرى فالتلقائي هو الجوهري.

ولعل من المناسب هنا أن أشير إلى قصتي مع نازك الملائكة التي كانت قصةً بحثيةً تراجيدية نوعًا ما، إذ غادرت جامعة أدنبرة عام 1974 لجامعة إكستر وفي جعبتي مادة بحثية أمضيت فيها كل مدتي في أدنبرة، وفي إكستر أشرف علي البروفيسور قوتيه ينبل وهو مستشرق هولندي، ولم يعجبه موضوع نازك الملائكة وأصر إصرارًا عجيبًا على تغيير موضوع الرسالة، وكانت مشكلتي حينها مزدوجة، فقد مضى علي ثلاث سنوات في بريطانيا والآن يريد مشرفي أن أبدأ من الصفر، وعجزت عن إقناعه بموضوع نازك ولم يفلح جهدي معه وهالني إصراره ولم أفهم لذلك من سبب غير زعمه أنها لا تستحق أطروحة دكتوراه، ولكي يحسم لي خياراتي أحضر مخطوطة من مكتبة لايدن بهولندا لرجل اسمه أحمد بن جعفر بن شاذان، وهو عراقي عاش في آخر العصر العباسي وله كتاب وحيد هو (أدب الوزراء) واقترح علي أخذه بدلًا عن موضوع نازك، ولم يك لي بدٌّ عن تقبل العرض الذي لا يتفق مع تطلعاتي بأي شكل، ولقد علمت بعد مدة أن مشكلة قوتيه ينبول مع نازك تعود للقاء بينهما في أمريكا، وحدث بينهما صدام عنيف حول مسائل علمية وحمل في نفسه عليها، ولم يبد ذلك لي حين مناقشاتي معه في موضوع الأطروحة، ففهمت أخيرًا أن السبب شخصي ولم يك علمياً، ولكن الذي ظل عندي وفي تقديري هو أن أطروحتي الحقيقية هي عن نازك الملائكة، أما ابن شاذان فقد كان سببًا لنيل الدرجة فحسب، وظلت نازك والسياب معًا حاضرين في كل بحوثي ودراساتي واستشهاداتي، وأول بحث لي بعد الدكتوراه كان عن نازك وتوالت بحوثي عنها في عدد من كتبي.