«المهزومون» كعمل طالب جامعي في العشرين هي رواية ناضجة وعمل فني ممتاز، ولا أظن أن احتمال كونها قصة " هاني الراهب" شخصيا يلغي قيمتها، فقيمتها الحقيقية ليست في حوادثها وحبكاتها، وإنما في تكنيكها وشخصيتها الفكرية.
يضاف إلى ذلك أنها تخرج من إطار المذكرات الشخصية والانطباعات الخاصة إلى الإدلاء بشهادة عن الإنسان من خلال مجتمع معين أو من خلال فئات معينة في هذا المجتمع.
تدور حوادث الرواية (وهي حوادث عادية، من حب وشهوة وآمال وصدمات عابرة) في إطار جامعة دمشق، وأحيانا في بعض أحياء المدينة أو في خارجها، لكن روح الجامعي هي المسيطرة، متميزة بحيوية الطلاب، وشهوتهم لحياة مع ما في هذه الشهوة من خوف وعدم ثقة، ورفض للقيم القديمة، وتقليد وسخف واندفاع ونوبات يأس وإيمان، وأشخاص الرواية أشبه بالنماذج الفكرية أو الرموز (حتى أسماء بعضهم رموز)، والبطل الرئيس (بشر) نموذج الشاب الخارج من المراهقة مع بعض الذبول، ويعطي البقية الباقية من التصارع وإياها، والمتطلع إلى الحقيقة، وإلى مبرر للوجود، وإلى معنى لخيانة في عالم يموت فيه جذر الحب والطهر.
ويبحث «بشر» عن النور بحثًا هادٍئا ومخلصًا، تحيط به ارتجاجات وتتقاذفه أمواج، ويعاشره رفاق كل منهم نموذج مختلف، إنه بشر نموذج الجامعي الفوضوي الذي يطلب الصواب فيجده في النظام، وصالح نموذج المناضل الذي ينشد حياة كريمة وبسيطة، ودريد نموذج الملتوى والمقلد والمنحل، وفايز نموذج الجاهل النذل (والأخيران معا نموذجا الطفيليات البشرية ونموذجا القومية والتشويش واللامبالاة في الجيل الجديد)، وأم بشر نموذج الحب والطهر واللذين يقعان تحت رياح هذا العالم المعادية، وراحة نموذج الضحية التي ينتزعها الموت ممتحنا مجيئها، ومنهم بشر، في مدى تحملهم مسؤولية الصراع وإخلاصهم لقضاياهم، وسحاب نموذج الثورة الانحلالية والرفض العابث....
تجمع هؤلاء الأشخاص رابطة الرغبة في الانعتاق من القيود البالية في مجتمع رجعي والراغبة في إثبات المبادئ والأفكار المختلفة التي نشأوا عليهـا الطرية، مذبذبين ما بين تقاليد تراث عربي جامح نحو التآمر وآفاق جديدة تنقض كل ما وصل إليهم من تعاليم وعادات وأخلاق.
أي أنهم يشكون الازدواجية، حتى بشر اليقظ، منسلخ.
على أن انعدام الأصالة الذي يصوره لنا هاني الراهب عند فائز ودريد من خلال انعكساس حركاتها وأقوالها في نفس بشر، عمل مقصود من طرف واحد. فنحن نفهم أن الاثنين زائفان وفارغان لكننا نظل أمام صورة جامعة من هذه الناحية لبشر، ولا ترى انعكاسات أفعاله وأقواله في نفوس سائر أشخاص الرواية، فإن الكاتب غير واثق من صمود بطله، وخائف عليه من الانزلاق والتصدع، فيحجبه إلا في ما يظهره منسجمًا مع فكرة البطل النبيل الواعي المتألم ألما أصيلًا، والطافي على وجه الماء طفوا أصيلًا لا تقليد فيه لسائر مدعي الثقافة والفراغ، والمواجه مواجهة أصيلة حرة لا خنوع فيها ولا سوء نية (بل مجرد انفعالات ومشاعر وردود فعل معقولة وشريفة مهما بدا ظاهرها لا أخلاقيًا)، والبائس يأسا من الواقع الأقرب، والمتلبس تلبسا مأساويا أصيلًا ، يكبر بكل طيبة وينهض بكل عفويـة ويثابر دون أي تكلف، وأخيرا يقرر بمنتهى الصدق والأصالة أن النظام هو الحل.
أخفى الكاتب بطله إلا في ما يبقيه نموذجًا للتجربة الإنسانية الصادقة، ولمثالية الشاب الجامعي العربي السوري الذي يدرك بالاستقامة (استقامة الإنسان المخلص في تجربته) والوعي، والذي يكتشف في ما يشبه الرؤيا أين هو معنى الحياة وجوهر الرسالة، ومكان الجبهة التى يجب أن يحصل فيها القتال.
وهذا الستار ليس نقصا فنيا فحسب بل هو ضعف في تناول الكاتب لأشخاصه وفقر في الشجاعة الروحية.
يكاد يكون من المستحيل مناقشة القصاص في الأمر الآتي:
هل أن قصتك تجربة صادقة أم هي أطروحة في الفلسفة؟
لكن من الممكن بالنسبة لهاني الراهب طرح السؤال بشكل آخر: هؤلاء الاشخاص الذين جعلتهم يتحاورون ويواجهون مشكلاتهم (الصغيرة) كأنها المشكلات الأولى وكأنهم المعانون الأول، كم يجدون أو يتشربون من النماذج الفكرية؟ إلى أي حد ليسـوا أوعية بشرية لمواقف ومفاهيم وجهات فلسفية مضادة وما بين هذه وتلك؟.
عندما أراد سارتر من أشخاص قصصه ومسرحياته وكامو أيضًا أن يأخدوا أغراضه الفلسفية، ووزعهم حسب موقفه الفلسفي من الحياة، لم يكن يعتدي على أشخاصه إلا باسم نظام كامل لما هو أشمل منهم، أي لفلسفة إنسانية، إن أشخاصه مهما بقوا خالين من الحياة هم أشخاصه وهم نماذجه هو، إن صنائع الحياة كما يفهمها الفيلسوف في سارتر، وأبطال القصص كما يريدهم القصاص سارتر في خدمة الفيلسوف فيه، وهو في الحالتين مكمل لنفسه.
لكن اقتراب القصـاص «المهزومون»، من النماذج الفكرية المعطاة لحما ودما يعطيهم صفة التقليد، فهاني الراهب لم يضع أشخاصه في خدمة نظام فلسفي من صنع هاني الراهب، بل وضع أشخاصه تجسيدا لأفكار جهة، تنظر لشخص محكوم، بحريته، بقدر ما كان شخصا رسم له أن يموت، لتبدأ الحياة من الناحية الأخرى. وأيضًا رسم دروبا متنوعـة متناقضة سردا لحادثة، لا تصويرا لطباع، ولا وصفا لبيان الاتجاهات، ليحاول إظهار البطل حرّا في اختيار مصيره، وليحاول إظهاره مرهفا بالتيارات والانفعالات والمشكلات.
وبالطبع لا يؤاخذ هاني الراهب على ذلك، فهو الذي يختار أشخاصه وهو الذي يعطيهم أدوارهم، لكنه يؤاخذ على شيئين بالأقل؛ تحصين بشر ضد الشعرية في نفوس الآخرين، فيما أطلق العنان لآخرين على هواه، والتزامه في أشخاصه حدود الأفكار بل حدود الأفكار المثالية.
صحيح أن الإنسان تنفذ إلى مأساته أفكار، وصحيح أن مأسي المهزومين في الرواية ليست كلها ضخمة لكني لا أعتقد أن ذلك يعني شيئًا هنا، فالكاتب بتقديمه ما قدم من مشكلات كان يقول إنه لا يملك أن يصدر من سواها.
أشخاص الراهب منتشرون في مجتمعاتنا ولولا الإحساس بأنهم نماذج فكرية مختارة وفيها شيء من المثالية التي تشوههم، لقبلنا بـ«المهزومون» دون مناقشة في مدى واقعية أشخاصها أو كونهم خلاصات ثقافية، ثم نجدنا ما نزال أمام نوع من الروايات أول ما تثير فينا هو سؤال:
ما معنى الحياة. هاني الراهب يضع بطله بشر وجهًا لوجه، على مسافة بعيدة من أسباب يأسه، ليحاول إظهار ما إذا كان على علم بأسباب للتوجه للحياة بكل ما يجيش في صدر شاب متحرر من القيم الزائفة والمنهارة.
ولعل أقوى ما في الرواية أسلوبها، الذي يضع هاني الراهب في مستوى كبار كتاب الرواية، يتقدم الحوار برشاقة، ولكل حوار بعد، ولا يظهر على حواره أو أسلوبه أي عناء، بل ترانا مرتاحين أمام اللغة تنساب بحزم وارتياح، ولا يطرقنا الشعور بالحزن إلا لماما. في «المهزومون»، حوار جذاب، شديد الالتصاق بالعفوية، رائق، شفاف، قريب إلى حد التوجه بالشفهية الواقعة بقدر ما يمكن أن تكون شفهية.
حوارات «المهزومون» ستظل ترافق الجيل العربي الجديد من المتعلمين والمثقفين، إلى أن تتضح مفاهيم فلسفية لمعنى الحياة، ومعنى فهم ماهية القيم والتقاليد المترسخة في مجتمعاتنا العربية. 1961*
* شاعر وصحافي لبناني«1937 - 2014»