فى ترائى الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق «وهو – مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها – إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث» أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام «لفروض الرحمة والإنسانية والبر».
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، مصرًا على الامتناع، منتهيا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر، مزاولًا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة تُرسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادى الغريزة.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسًا في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها.
أما والله لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعًا، لآل معناه أن يكون إجماعًا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملًا في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه ـ لا في الكتب – معانى الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معانى الإخاء والحرية والمساواة.
شهر هو أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي ؛ فيقبل العالم كانه على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمتها هو.
وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله – ولو يومًا واحدًا - من حاملة في يدها السبحة... !
فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها – إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معانى إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيرًا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معانى الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتبسة في فكرة الخير وحدها، فهى تبنى بناءها من ذلك ما استطاعت. هذا على الحتمية ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفسانی کفصول الطبيعة في دورانها؛ ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكتسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جدًا أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مـدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة، عجيب جدا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8%، فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه فله في كل سنة زيادة من قوته المعنوية الروحانية. وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفتك العالم حق معرفتك لأنك: «مدرسة الثلاثين يومًا». كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم؛ فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: «كتب عليكم الصيام كما كتب على كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون». وقد فهمها العلماء جميعًا على أنها معنى «التقوى»، أما أنا فأولتها من «الاتقاء»؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقى المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان: يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقى هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه وما خلفه هو الجيل الذي سيرث الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتى. 1923*
* كاتب مصري «1880 - 1937»