لأن الدراسات الاجتماعية العربية التي تنحو تجاه تقصي تحولات الأفكار والقيم تكاد تكون في عداد النوادر، فإن القرارات والأحكام على المواقف والأشخاص تسير وفق "خذوهم بالصوت" دون البحث الدقيق في المسببات والخلفيات الحقيقية لأي قضية مثارة. فمثلا إذا نظرنا لقضايا التعدي على الذات الإلهية (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا) فإننا لم نسمع أو نقرأ حتى الآن عن أي بحث علمي أو اجتماعي حيادي يتقصى أسباب توالي تلك القضايا وانتشارها عربيا. ولهذا يمكن أن أسمح لنفسي باستنتاج شخصي قد يكون صائبا أو خاطئا، ولكنه في النهاية يحتاج إلى نقاش هادئ وموضوعي. هذا الاستنتاج ينطلق من علاقة "الردة الطائفية" المخيفة التي تجتاح العالم العربي بالنزعة المتزايدة في تقديس الأشخاص ورفعهم إلى درجات لا يقبلها العقل السليم، ولا تتفق مع ما وصل إليه عامة الناس من وعي عززته وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي سهلت الحصول على المعلومة وضدها في زمن قياسي. ففي حالة الأجيال الحالية لم تعد المعلومة تُصب صبا في الأذهان ثم تغلق العقول عليها، فتصبح حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، لأن الكثير من الشباب والشابات وتبعا لمتطلبات العصر ومقوماته، يُخضعون الكثير من المعارف والعلوم التي يتلقونها في مدارسهم أو عبر وسائل الإعلام المختلفة، للتحليل والنقاش الذاتي أولا ثم مع الآخرين الذين يتجانسون معهم في الأفكار، وقد ينطلقون إلى عرض هذه الأفكار على محك ما يضادها أو يحاول نفيها سواء من داخل ثقافتهم المحيطة أو من الثقافات الأخرى. وفي معظم الأحوال يصلون إلى نتائج صادمة لهم، خصوصا عندما يرون أن محيطهم الاجتماعي والفكري يحاول قولبتهم لكي يكونوا مجرد توابع لأشخاص آخرين لا يملكون من التميز الكثير، والأسوأ إذا حاول المجتمع جرهم إلى "تقديس" هؤلاء الأشخاص ونفي الخطأ البشري عنهم. عندها قد تتكون لدى هؤلاء الشباب ردات فعل غير محسوبة وخارجة عن المقبول دينيا واجتماعيا، فتظهر منهم ألفاظ أو أفعال قد تتجاوز الإساءة إلى البشر "المقدسون" إلى الإساءة للذات الإلهية، وعندها يقعون في المحظور الذي لا يقبله عقل ولا دين.
إذن ففي اعتقادي أن من أسباب تنامي هذه الظواهر المؤلمة، المبالغة في التشرذم الطائفي الذي يعني بالضرورة مزيدا من تقديس الأشخاص ورفعهم لدرجة النزاهة والنقاء المطلق. وقد يكون من أسباب ترسيخ هذا "التقديس" محاولة جعل الشعوب مجرد قطعان يجرها للهاوية أي شخص يزعم "القداسة" لنفسه، أو يلبسه أحدهم هذه الصفة لأهداف دنيوية لا علاقة لها بالدين.. وفي هذا الإطار ابحث دائما عن أصابع السياسة والسياسيين.