لكن سرعان ما تبدأ الإمدادات الضئيلة التي بحوزتهم في النفاذ، ويبدأ الجميع يصارع من أجل البقاء لتتكشف لهم حقيقة شخصياتهم. وهنا يصبح انجراف قارب النجاة الخاص بهم بمثابة مقاربة لانجراف معاييرهم الأخلاقية!
قارب صغير ينجرف على بعد مئات الأميال من اليابسة. هناك عاصفة تقترب تتضاءل معها فرص النجاة. يتنازع الركاب هل نترك الأمور تأخذ مجراها (لكن حتما سيموت الجميع) أم نحاول إنقاذ أكبر عدد ممكن؟ هل نضحي بالبعض لننقذ البعض الآخر؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف ومن سنختار؟
في غضون وقت أقل مما قد يتخيله المرء، يجد الناجون أنفسهم -وربما المشاهدون معهم أيضًا- يتصرفون بطرق لم يكن من الممكن تخيلها...
هذه المقاربة تعكس مفهوم الانجراف الأخلاقي (التآكل التدريجي للسلوك الأخلاقي الذي يحدث لدى الأفراد دون وعي منهم) كنوع من الانحدار التدريجي للمعايير التي يمكن أن تحدث لفرد أو مجموعة من الأفراد نتيجة لتفاعل الضغوط البيئية مع أولئك الذين يتعرضون لهذه الضغوط.
يرى علماء النفس أن هذا الانجراف غالبًا ما يحدث بنوع من التحايل أو حتى دون وعي من أولئك الذين يتعرضون لتلك الضغوط. تمامًا مثلما يمكن لقارب يسير في وسط المحيط أن يقطع مسافات طويلة دون أن يلحظ الراكب أي تغير في موقعه، وهكذا يحدث الانجراف الأخلاقي بالتدريج دون أن ندرك حتى أن معاييرنا في الحكم والتصرف أو أطرنا المرجعية قد تغيرت! وشيئًا فشيئًا يأخذنا الانجراف بعيدًا لدرجة أن هؤلاء المنجرفين أنفسهم قد يصابون بالفزع من تصرفاتهم.
جميعنا يواجه معضلات وصراعات أخلاقية في عمله وفي رحلة حياته عمومًا، غالبًا ما يكون هناك توتر بين التمسك بموقف أخلاقي حازم وتبرير الأفعال ومواجهة مجموعة معقدة ومتعددة الأوجه من الظروف، ويكون عليه أن يختار أي اتجاه يسلك.
نحن جميعًا لا نعرف كيف سنتصرف عند مواجهة موقف ينطوي على معضلة أخلاقية، أو لو وُضَعَتنا الأقدار في موضع ما تُختَبر فيه معاييرنا الأخلاقية التي تربينا عليها، فقد نملك الحكمة والقدرة على التفكير الأخلاقي، ولكن لا نملك القدرة على التصرف بذات الحكمة التي يتطلبها هذا التفكير.
لو أن شخصا جرفه التيار قد يرى نفسه في النهاية وقد ابتعد عن الشاطئ، ولكن قد يستغرق بعض الوقت قبل أن يدرك أنه أصبح بعيدا في مكان مختلف، وبمرور الوقت ربما ينسى المرء أين كان، وأين وصل. وبالمثل، عندما يحدث الانجراف الأخلاقي، عادة ما لا يدرك المرء ذلك إلا بعد فترة طويلة. وبحلول ذلك الوقت، ربما يكون الشخص قد فقد شخصيته الأصلية!
إن الاستجابات الأخلاقية تتشكل من خلال عوامل متعددة، مثل الوعي بالقضايا الأخلاقية، والتأثيرات الاجتماعية والثقافية، والعادات، والعواطف، والحدس، والفضائل والشخصية، والدوافع المتعددة أو المتنافسة، والخبرات السابقة، والمهارات التنفيذية والتنظيمية اللازمة لتنفيذ القرارات. هذه العوامل لديها القدرة على التحكم في معرفة المرء بقواعد الأخلاق ونماذج اتخاذ القرار العقلاني.
والآن ما العمل لتجنب الانجراف الأخلاقي؟
نحن بحاجة في جميع مراحل النمو - من الطلاب إلى المحترفين- أن نفحص ونفهم مشاعرنا ونسقنا القيمي من وقت لآخر، وأن نتحقق من أي تضارب في تفكيرنا الأخلاقي.
في مناهجنا التعليمية، يجب تدريب أبنائنا على التفكير الأخلاقي من خلال تعريضهم لمعضلات أخلاقية ومساعدتهم على فهم كيف يفكرون، والتعرف على تحيزاتهم الشخصية كشكل من أشكال الوقاية الأولية.
وفي أماكن العمل يجب العناية بتفعيل مدونات الأخلاق التي تصف الممارسات الأخلاقية بدقة والتدريب على إتقان كيفية اتخاذ قرار أخلاقي من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
إن القيام بذلك لا يقلل فقط من مخاطر الانجراف الأخلاقي، ولكنه يساعد أيضا في نقل جودة ممارساتنا من مجرد مناسبة إلى المستوى الأمثل.