وكل هذا تتشكل فصوله وانعطافاته في زماننا هذا.
حاليًا تواجه دول العالم تحديًا مشتركًا في تأمين مصادر الطاقة المستدامة. ليست قضية أزمة المناخ إلا شمّاعة كبيرة لنزع موثوقية الوقود الأحفوري رغم أنها كأزمة تتفاقم يومًا بعد يوم منذ بداية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
لقد اصطدم الغرب بكرة الثلج التي كانت تكبر يومًا بعد يوم منذ لحظة انتهاء الحرب العالمية الأولى. وقتها كان مدفوعًا بالثورة الاقتصادية والتقنية العلمية، لكنها سرعان ما تحولت إلى وقود للحرب العالمية الثانية التي دمرت أي منهجية للبناء الاقتصادي المستدام. لقد حرص الغرب في أوروبا وأمريكا منذ تأسيس الأمم المتحدة على تعظيم الاقتصاد السياسي لضمان استدامة الأمن القومي على حساب البيئة والمناخ.
وبعد أن بدأ يواجه تحديات غير قابلة للحل فيه، عاد لفرض البيئة والمناخ على سلّم الأولويات. صحيح أن أزمة المناخ حقيقية، ولكن أهميتها الآن للغرب هي أهمية جيوسياسية.
إن الاعتماد شبه الكلي لأوروبا على روسيا في إمداد الطاقة أعطى قوة لروسيا، كما أن انشغال أمريكا بقضايا أمن إسرائيل ومشروعات تقسيم دول الشرق الأوسط قادها للاعتماد على الطاقة الناضبة بشكل أساسي ساعدها في ذلك نفطها الصخري وحقول الغاز رغم أنها لا تمتلك مخزونًا طويل المدى.
الآن تسعى أمريكا لتأمين السوق الأوروبي بالغاز المسال لمدة عقود لتصبح أوروبا هي المشتري الرئيسي بعد أن تتراجع نسبة إنتاج النفط الأمريكي. وهذه خطوة اقتصادية مهمة بل هي قضية وجود بالنسبة لأمريكا.
وبين هذا وذاك تظهر الاستراتيجية الصينية المبهرة في سبيل التحول نحو الطاقة النظيفة والمستدامة التي أعلنتها في سبتمبر 2020.
بثلاثة أضعاف ما كانت تحتاجه قبيل انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، تستهلك الصين حاليًا أكثر من %25 من مصادر الطاقة على مستوى العالم بشكل سنوي وبنسبة %135 من استهلاك الولايات المتحدة.
كل هذا جاء نتيجة الثورة الاقتصادية الصينية وهي الأخرى سياسية، لكنها هنا مدفوعة بتهديد أمريكي يسيطر على أعالي البحار التي تدير اقتصاداتها من خلاله ويتحكم بشكل شبه وثيق بالمضائق البحرية المهمة، وهو ما جعل الصين تسابق الزمن للاستقلال في مجال الطاقة من خلال بنائها لأكبر مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
حيث يمثّل إنتاج الصين اليوم نحو %20 من إنتاج الطاقة المتجددة عالميًا. ولكن على الرغم من هذا فإن الطاقة المتجددة في الصين لا تزال تشكل %12 من حاجتها للطاقة، حيث تعتمد اعتمادًا أساسيًا على الفحم الحجري ومن ثم النفط ثم طاقة الرياح والطاقة النووية.
تضع الصين نصب عينيها هدفًا للوصول للحياد الكربوني بحلول العام 2060 وذلك قبل جارتها المليارية الأخرى الهند التي تستهدف العام2070.
لكن هذا الهدف أصعب من الناحية الفنية من الهند التي تقل عنها في الاقتصاد والتقنية والمساحة الجغرافية وتقاربها في نسبة عدد السكان.
فالصين تتركز فيها الكثافة السكانية شرق البلاد وتتوفر فيها معادن الليثيوم وبوليمرات السيليكون في غرب البلاد وبينهما مسافات ضخمة وقرى ومدن متناثرة تحتاج الصين لربطها بشبكة تيار كهربائي مستمر عالي الجهد وهي مكلفة ماديًا وتستغرق الكثير من الوقت.
وعلى الرغم من أن 440 مفاعلا نوويا في العالم تعمل الآن وفق شروط تشغيل وقوانين عالمية صعبة بسبب مشكلات النفايات النووية وقضايا البيئة ذات الأثر الأسوأ من أزمة المناخ إلا أن الصين تعتزم بناء 155 مفاعلا نوويا جديدا قبل 2037 من أجل وقف استخدام الفحم الحجري الذي يشكل %60 من مصادر الطاقة الصينية وإنتاج 2 تيرا واط من مصادر متجددة من إجمالي 2.5 تيرا واط تحتاجها كل عام.
مستقبل اقتصاد الصين يتبلور الآن في مجال الطاقة الشمسية والرياح والطاقة النووية مع الإبقاء حتمًا على سياسة استيراد النفط والغاز للوفاء بالتحديات الموسمية والزيادة البشرية مع الاستمرار بفتح الاقتصاد الصيني والتحول نحو الإنتاج المتخصص، كما أن مستقبل الولايات المتحدة سيكون في مجال الطاقة المتجددة أقل من الصين ولكنها ستعتمد على تصدير الغاز المسال إلى أوروبا.
أما الشرق الأوسط فهو يقف اليوم موقف المتوثب نحو مستقبل أكثر إشراقًا، لكنه يعتمد على كيفية اقتناصه للفرص لاستدامة خليط الطاقة فيه، وتعظيم قدراته البشرية وأمنه قبل ذلك.
لا سبيل للشرق الأوسط غير الانفتاح الحضاري وزيادة معدلات السكان إما بالتجنيس أو فتح منح الحقوق الاستثمارية للأجانب. ولا أجد غضاضة في دعوة دول الخليج للتفكير في قضية المستقبل الديموغرافي. فهو سيشكل عائقًا كبيرًا بحلول 2070.
فإذا كنت ستعيش في ذلك العام، فإنك من المؤكد تعيش في خليط مجتمعي خليجي غير مسبوق في التاريخ حيث أوروبيو الأصل يتجولون في الشوارع بعد حملات الهجرة المتلاحقة نحو الشرق الأوسط الرغيد.