هناك في الضفة الأخرى من العالم، تتشكل رموز رغم قلتها ولكنها تحمل مفاتيح الضمير الحي، والاستنارة العقلانية وترفض التضليل والتزييف والاستبداد، وتحكيم القوى المدمرة وطمس الحقائق، ولذا فهم ضحية الوأد الإعلامي وقهر المصادرة، وشعوذة التصنيف والعزلة الخانقة، لا لذنب اغترفوه إلا لكونهم يجسدون "بقية أخلاق وشيئا من التقوى"، وينادون بحقوق العدالة والحرية والسلام البشري، ويرفضون الهيمنة والتسلط وقهر الشعوب، فنصبت لهم الأفخاخ وأدخلوا الصناديق السوداء والغرف المعتمة، وأعدت لهم الادعاءات الضدية والتسفيه والحجب والإقصاء، والكفر بالأمركة والصهينة والانغلاق الحضاري، ونبذ الآخر والسعي لاستئصاله، وهذا ما يتعرض له الشاعر الألماني "غونترغراس" الفائز بجائزة نوبل عندما كتب قصيدته "ما ينبغي قوله" والتي احتفت بها صحافة العالم واعتذرت الصحافة الأميركية عن نشرها. ورغم أن القصيدة "لا ترتقي إلى مرتبة الأعمال الإبداعية التي عرف بها غراس، فإنها تظل تتمتع بخصال النص الملتزم، الذي يهدف إلى فضح الأكاذيب التي تعتري الحياة المعاصرة، وإلى مواجهة الظلم الذي يعانيه الإنسان، في مرحلة تاريخية شديدة الاضطراب" كما يقول عبده وازن. وقد نشرت القصيدة بترجمة خاصة في مجلة "دبي الثقافية". وقد وقع غراس من خلال قصيدته تحت وطأة العبث والتمويه الإيراني وجسارة إعلامه حين أظهرها إعلامها وكأنها دولة مسحوقة وقعت ضحية داخل اللحظة التاريخية، والنظام البريء الواقع فريسة للاعتراك الدولي. وقد أدرك غراس أنه سيكون عرضة للتهمة الإسرائيلية الجاهزة والمخبأة فهو يقول: "الصمت العام الذي يهيمن على هذا العالم شاركت أنا فيه، والذنب هنا لا غفران له، والتهمة المألوفة تلصق بك معاداة السامية".. وقد اعترف غراس بأن إسرائيل وإيران تهددان السلام العالمي، وتسعيان لتسجيل أنهار فائضة من الدماء والخراب والحروب النووية المستعرة وويلات الصراع، نتيجة المكوّن العدائي التقويضي المسكون داخلهما وتصعيد الخطاب الدموي والهستيري المضاد للسلام، والمسار الحضاري. يقول غراس: "هنا أعترف بأنني لن أصمت بعد اليوم، لأنني سئمت نفاق الغرب، وبهذا آمل أن يتحرر الآخرون من الخوف، وأن يكسروا أغلال الصمت وأن يطالبوا من يمشي خلف الخطر بالتراجع ونبذ العنف، وأن يعملوا على إقناع حكومتيّ البلدين للموافقة على منح هيئة دولية حق مراقبة المنشآت النووية الإسرائيلية والإيرانية معاً، وبالدرجة نفسها مراقبة علنية ودائمة ومطلقة، وهذا هو الحل الوحيد، كي تنعم كل شعوب المنطقة بسلام دائم، هذه المنطقة التي ما زال يسود فيها جنون العداء القاتل".