لن أنسى نظرة أبي لي ولأختي على بعد متر واحد عن متناول يده، وهو لا يستطيع أن يفعل لنا شيئاً.
سبب الزحام هو حب الناس للقرب من الكعبة ولمسها، و«فضل» الصلاة خلف المقام، بعض الحجيج يقيمون بأجسادهم دائرة لحماية أحدهم ليصلي الركعتين خلف المقام، ثم يأتي غيره، وهكذا.
هذه الدائرة توقف تماما حركة الطائفين، وتسبب ازدحاما خانقا يصعب التعامل معه خصوصا أيام الحج ومواسم العمرة.
الواقع أن السبب الحقيقي في الزحام هو أحد التفسيرات القديمة للفظ «مقام» تفسير، من تفاسير، لكنه وحده حظي بالترسيخ والانتشار.
إن المسألة فهم من أفهام مختلفة، بعضها أصوب من بعض وربما شاع أقلها حظا من الصواب وأبعدها عن المقصد لما توفر له من ظروف.
• ترد كلمة (مَقام) بفتح الميم في القرآن الكريم بمعان منها:
مكان/ بدل/ عوض: «فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما»
الدعوة والخطاب: «يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللَّه»
مكانة /قوة: «خاف مقامي» و«عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا».
مكان إقامة: «وكنوز ومقام كريم» «جنات وعيون وزروع ومقام كريم».
نشاطك أو ما تفعله الآن: «آتيك به قبل أن تقوم من مقامك».
• ويرد الفعل (قام) في القرآن بمعان منها:
مكث توقف انتظر.. «كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا».
نهض حسّياً «وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى».
نهض معنويا «وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض».
ويرد الفعل «تقوم» في القرآن بمعان منها:
تعظ وتذكِّر «... لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه».
تستيقظ «الذي يراك حين تقوم» «وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم».
•وترد كلمة (قائم) في القرآن الكريم بمعان منها: قاضٍ وحاكم دائم.. «قائما بالقسط».
مفلح وحريص ومراقبا «ما دمت عليه قائما».
حاضرا موجودا «وامرأته قائمة».
مدير ومسؤول «أفمن هو قائم على كل نفس».
واقع وحادث «ما أظن الساعة قائمة».
مقيم وعاكف «طهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود» «طهرا بيتي للطائفين والعاكفين». واقف «ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها».
يقول التبريزي «والمُقام: حيث طال مكثهم فيه، وكذلك المصدر المقام من الإقامة، فإن كان من قام فالموضع والمصدر جميعا مَقام بفتح الميم».
وفي لسان العرب: «المَقامُ والمُقامُ فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام، لأَنك إذا جعلته من قام يَقُوم فمفتوح، وإن جعلته من قام يُقِيمُ فَمضْموم».
وقوله عزَّ وجل: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم؛ قيل: المَقامُ الكريم هو المنبر، وقيل: المنزلة الحسنة.
وفي الصحاح: «لا مقام لكم» أي لا موضع لكم. وقرئ «لا مقام لكم» بالضم أي لا إقامة لكم.
يقول ابن كثير في «إن كان كبر عليكم مقامي» أي فيكم بين أظهركم.
• واضح أن من معاني «المقام» الحضور والإقامة، والموقف، والمكان والنشاط.... أما ما تخلفه الأقدام فهو أثر.
ولنفهم معنى «مقام إبراهيم» فهماً أفضل، يجدر بنا أن نبدأ بآية «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».
الخبر في هذه الآية مؤكد بمؤكدين، وهو أسلوب بلاغي في مخاطبة المنكِر ومن في حكمه، وكأن الآية تفضّ جدلاً حول أي بيت هو أوّل، وتؤكد أنه الذي بمكة.
ولم تكتف الآية بالمؤكدات اللفظية، بل أوردت ثلاثة أدلة واضحة (آيات بينات) أدلة تاريخية وجغرافية وواقعية يعرفها ويراها المنكرون والمتنازعون معاً، هي:
ـ النبي إبراهيم جَدّ المتنازعين والمنكرين قام بدعوته وأقام هنا في مكة.
ـ الأمان الذي في هذا البيت/ الحرم، وما زال قائماً.
ـ فرض الله الحج، فالناس تحج إليه وما زالوا.
• إن لفظ «بيت» يطلق على مجمع العائلة الكبير، ويطلق على مكان السكن، ولفظ «مقام» بفتح الميم وضمها يطلق على مكان الإقامة وعلى الإقامة نفسها، ولفظ «مصلى» يطلق على مكان الشعيرة المعروفة وعلى مكان تجمّع الناس للعبادة والدعاء.
إنما لماذا قالوا إن المقام هو هذا الحجر المنحوت وإن المصلى خلفه، ولماذا رفض العلماء نقله من مكانه حين أراد الملك سعود ذلك تيسيرا على الناس؟.
هذا ما سأعرضه في مقال تال.