الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت الكثير مما كان مختبئا تحت الغطاء، من النفايات والقاذورات السياسية والفكرية والاجتماعية، بدءا من النفاق السياسي ومرورا بالعنصرية وفبركة التحميق السياسي وانتهاء بالضحالة الفكرية وقصر النظر، والغرق في محيط النزعة المعادية للإمبريالية.

في هذه الحرب كما ستكون في الحروب القادمة الأخرى، يدخل التحميق السياسي كأحد العوامل المهمة في أجندة كل القوى المشاركة في الحرب الأوكرانية بشكل مباشر أو غير مباشر، وتلعب الحرب الإعلامية دورا في إشاعة تلك الحماقة في المجتمع لإثبات حقانية الحرب الزائفة في أوكرانيا، وإخفاء ماهية الصراع بين الدول الإمبريالية العالمية.

الاصطفاف مع روسيا وماكينتها الحربية أو الاصطفاف مع أمريكا وكل الحلف الغربي، وعقوباته الاقتصادية، هو مهمة التحميق السياسي للحيلولة دون توحيد جبهة واحدة من روسيا، ومرورا ببلدان الاتحاد الأوروبي وانتهاء في الولايات المتحدة الأمريكية، التي بإمكانها الوقوف بوجه القتل والتشريد والدمار وبث الرعب في أوكرانيا وأوروبا وحتى العالم.


من الممكن إيقاف الحرب، إذا أراد حلف الناتو ذلك، عبر إعلان بأنه لن يقبل أوكرانيا في حلف الناتو، أو تعلن روسيا أنها ستتوقف وتكف عن القتل والدمار، وأن الدبلوماسية هي الطريق لحل المسائل الأمنية، بعد أن أصبح الرئيس الأوكراني زيلينسكي يستجدي التوسل للحديث لبوتين، وأصابه الإحباط وخيبة أمل من إعلان بايدن وجونسون وحلف الناتو لرفضهم فرض أي حظر على الأجواء الأوكرانية، وبعد أن فشل كل دعايته - أي زيلينسكي - في إرعاب الناتو بأن احتلال أوكرانيا سيهدد حدود دول الحلف.

إلا أن الطرفين لا يسعيان إلى إيقاف الحرب من الناحية العملية، وكل ما يقال في الإعلام هو جزء من التحميق السياسي، يمارس من أجل الحفاظ وحماية مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وإخفاء ما يمكن إخفاؤه خلف تلك الحرب.

الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو يبغيان من وراء عدم إيقاف هذه الحرب تأليب الرأي العام العالمي على روسيا، عبر تسليط الضوء على مناظر الدمار والتشرد واللاجئين ومعاناتهم، إنهم يربحون سياسيا ودعائيا في كل لقطة تصوير لكاميرا تنشر معاناة اللاجئين الأوكرانيين وحجم الدمار الذي يسببه القصف الروسي، إنها أيام أعيادهم، كي يقوموا بتزيين وتجميل وإخفاء قبح وجه سياستهم الجهنمية. إن كل محاولات دونالد ترامب سلف بايدن في انتزاع الأموال، أو زيادة حصة ألمانيا في حلف الناتو باءت بالفشل، مما اضطر إلى سحب قواته أو تخفيض عديده في ألمانيا، إلا أن الحرب الأوكرانية وبجرة قلم وبشكل طوعي زادت ألمانيا من حصتها في الناتو بنسبة أكثر من 2% وهي كانت أكثر من مطالب ترامب.

وألمانيا التي لم تتجرأ على عسكرة اقتصادها ووضعت محدوديات عليها بسبب الحرب العالمية الثانية داخليا وخارجيا، فها هي اليوم تخصص 100 مليار يورو لتطوير قدراتها العسكرية وجيوشها، دون أية معارضة قوية تذكر داخل الطبقة الحاكمة الألمانية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فاستطاعت من جديد إعادة الروح إلى حلف الناتو، بعد أن وصفها عمانوئيل ماكرون الرئيس الفرنسي قبل أشهر، بأن الناتو يعاني الموت السريري.

وأكثر من ذلك، فإن أوروبا والناتو هم من مدوا يد طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية لحماية أوروبا.

كما دفعت بقية الدول الأوروبية وخاصة الشرقية بطلب الانضمام الى أوروبا، وفتح حدودها للجيوش الأمريكية والناتو.

وكانت أكثر الأصوات زعيقا تأتي من جونسون بريطانيا، وسوق نفسه وكيلا للأوكرانيين وأوروبا بما يتناسب وينافس بايدن على زعامة أوروبا. فالحرب على أوكرانيا هي فرصة ذهبية لتعويض مكانة بريطانيا في قلب أوروبا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في البريسكت.

أما روسيا فتخفي أطماعها التوسعية تحت مبررات سخيفة، وهي بأنها لا تريد اقتراب حلف الناتو من حدودها، وكأن الأخير لا يمتلك صواريخ يصل مداها لضرب أهداف في العمق الروسي خلال دقائق، ومن الممكن إطلاقها من فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا، أو حتى من الدول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى الناتو.

إن روسيا تريد عن طريق استعراض عضلاتها العسكرية، وضع حد للهيمنة الأمريكية على أوروبا، وأن قدراتها الاقتصادية لن تستطيع مجاراة القدرات الاقتصادية الأمريكية، فهي تحتل المركز الثالث عشر في الدول الصناعية ال20 التي تسمى جي 20، وأن معدل ناتجها القومي في الاقتصاد العالمي هو 4%، ولذا كي تتمكن من الهيمنة الاقتصادية والسياسية، أو على الأقل تكون رقما في المعادلة الأوروبية، فلا طريق أمامها إلا استعراض عضلاتها العسكرية.

فاليد الطولى الأمريكية الاقتصادية تصل إلى كل المنافذ الاقتصادية الأوروبية لحرمان روسيا من توسعها. وليست العقوبات الأمريكية التي شملت الدول الصناعية السبع الكبرى في العالم وأوروبا واليابان وأستراليا، سوى رسالة سياسية إلى روسيا بأنها لن تتمكن عن طريق العسكرتاريا جر أوروبا إليها. الطرف الأوكراني وقع ضحية خديعة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ويدفع مواطنيه ثمنا لحرب زائفة وكاذبة، وأصبح يدفع فاتورة الصراع المحتدم بين القوى الإمبريالية العالمية. وقد قدمتهم حكومتهم بزعامة زيلينسكي بدراية أو بحماقة، قربانا لتحقيق مصالح كل تلك القوى.

وهكذا تحول حلفاء الحكومة الأوكرانية بدلا من إنقاذها من براثن القوى العسكرية الروسية المتقدمة للإطاحة بها، تحول البنتاجون والقيادة المركزية في حلف الناتو إلى مرصد صحفي ينقلون أخبار تحرك الجيش الروسي، وإعطاء تقديرات المهلة الزمنية التي تسقط فيها كييف، وقياس طول القافلة العسكرية الروسية التي تصل إلى العاصمة الأوكرانية، بعد أن قاموا بإغراء الحكومة الأوكرانية بأنهم سيضمونها إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

وبدل أن يُمَطّرَ حلف الناتو المن والسلوى على الطبقة الطفيلية الحاكمة في أوكرانيا، حلت الصواريخ الروسية وطائراتها والقنابل، لتعج بالسماء الأوكرانية لتقتنص حياة الأبرياء أو في أفضل الأحوال تحويلهم إلى مشردين ومذعورين يبحثون عن ملاجئ آمنة وممرات إنسانية، تٌمَن بها القوات الروسية عليهم كي يتحولوا إلى لاجئين إلى أجل غير مسمى في البلدان الأوروبية.

وأن كل القرارات التي تتحدث عن إرسال مساعدات عسكرية جبارة إلى أوكرانيا لا تتجاوز الأطر الدعائية والإعلامية ومحاولة لإرضاء الضمير وتقوية معنويات المخدوعين، وتسويق صورة بأن الناتو لن يتخلى عن حلفائه، شرط أن تبعد الحرب عن أبوابه، لأنه ببساطة أن الأجواء الأوكرانية والموانئ الأوكرانية والطرق الرئيسية الأوكرانية هي أهداف مشروعة للقوات الروسية، فكيف تصل تلك المساعدات السخية إلى الأوكرانيين!.

أما البيت الأبيض وقصر الإليزيه ودوانت ستريت، فأوكلوا مهمة الدعاية لأنفسهم وهي الإشادة بالمقاومة الأوكرانية وصمود الشعب الأوكراني والبكاء على جرائم روسيا في أوكرانيا، بينما نأوا بأنفسهم عن الساحة الأوكرانية. إنه بحق طعم بلعته الحكومة الاوكرانية ورئيسها زيلينسكي الذي غضب قبل أيام وقال إن تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا ازداد منذ بداية الحرب على أوكرانيا. وأكثر ما يثير السخرية في مشهد الحرب على أوكرانيا، هو الاصطفافات السياسية، إما مع ذرائع روسيا الواهية أو أكاذيب حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.

ويبدو هناك طيف غير قليل ممن يحسبون أنفسهم على اليسار والقوميين وأصحاب النزعات ضد الإمبريالية، التي لا يرون غير الإمبريالية الأمريكية، واصطفوا مع روسيا، نقول يبدو ليس لديهم علم أو بأدق العبارة لم يخبرهم أحد، بأن روسيا دولة إمبريالية بامتياز، ولا تختلف عن الإمبريالية الأمريكية في هيكليتها الاقتصادية من تمركز الإنتاج وسيطرة شركات عملاقة على مفاصل الاقتصاد واندماجها بالبنوك و تغلغل رأس المال الروسي، عبر استثمارات كبيرة في العديد من بلدان العالم، وبنيتها السياسية التي هي متطابقة ومعبرة عن مصالح الطبقة البرجوازية، التي تدير تلك الشركات والبنوك والاستثمارات على صعيد السياسة الخارجية الملتحمة بمؤسستها العسكرية، لتكريس نفوذها الاقتصادي والسياسي، ارجعوا إلى كتاب لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» ستدركون خواص الدولة الإمبريالية.

في مقابل روسيا يصطف قسم من قصيري النظر و ممن استمتعوا بوعي التحميق السياسي، الذي تمارسها صناعة الإعلام الغربي، اصطفوا إلى جانب ترهات أمريكا والغرب حول خرق روسيا للقانون الدولي وحقوق الإنسان والسيادة..إلخ.

بينما كان احتلال العراق عام 2003 من قبل أمريكا-بريطانيا، تطبيقا للقانون الدولي وحماية للسيادة العراقية ودفاعا عن حقوق الإنسان!!

ارجعوا إلى مقال «القليل من النفاق السياسي قد لا يضر بالصحة».

وإذا ما وضعنا هذا التصور المخادع تحت المجهر، لا نلمس منه غير العنصرية المقيتة، فهي لا تساوي بين غزو واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبما يحدث من غزو واحتلال أوكرانيا من قبل روسيا. وليس هناك سوى تفسير واحد لهذا التصور، هو أن العراق بلد يقع في العالم الثالث ومواطنوه من الدرجة الثالثة أو أقل ولا يحسب على سجل مفاهيم حقوق الإنسان للمعيار العالمي والأمم المتحدة، بينما أوكرانيا في قلب أوروبا، ومواطنيه من البشرة البيضاء التي تعتبر من شعوب الله المختارة على الأرض.

إن العالم مقسم اليوم بين القوى الإغمبريالية العالمية، وأن صراع تلك القوى يلقي بظلاله على مجمل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية. فإذا كانت تداعيات الحرب على أوكرانيا هي نتاج ذلك الصراع بما يحملها من تشرد الملايين من الأوكرانيين وإشاعة أجواء الحرب والخوف في عموم أوروبا، فإن العقوبات الاقتصادية هي الأخرى تعمل على تشديد ظروف الضائقة الاقتصادية التي تفرض اليوم على الطبقة العاملة وعموم المواطنين في العالم بسبب العقوبات الاقتصادية. وبين هذا وذاك نجد نمو العنصرية القومية والعرقية، وكشفت هذه الحرب على تلك القاذورات سواء تجاه الأوكرانيين اللاجئين من أصول إفريقية الذين يعاملون من قبل الدول الحدودية لأوكرانيا بتمييز واضح، أو في صفوف الروس والأوكرانيين الذين وجهت فوهات بنادق حكوماتهم تجاه صدور بعضهم كي يكونوا وقودا في حرب لا ناقة ولا جمل لهم فيها. ولم تقف حدود العنصرية كما عبرنا عنها في مقال سابق عند ذلك الحد، بل العنصرية المنظمة التي تمارسها بشكل ممنهج حكومات الدول الغربية تجاه قضية اللاجئين.

إن اللاجئين الأوكرانيين لهم كل الخدمات وأبواب الغرب مفتوحة لهم، أما الأفارقة والآسيويون فالبحر يتسع لهم كي يكونوا وليمة للحيوانات البحرية. إن مسؤولية الحرب على أوكرانيا تقع على القوى الإمبريالية العالمية، روسيا من جهة، وحلف الناتو بقيادة أمريكا من جهة اخرى. إنها حرب نتاج مساعي الهيمنة على النفوذ الاقتصادي والسياسي، إن تبيان هذه الحقيقة هو جزء من صراعنا السياسي مع طبقة طفيلية لا يمكن لها الاستمرار دون الكذب والنفاق السياسي والسجون والاعتقالات والتعذيب والاختطاف، ومصادرة الحريات بكل أشكالها والتحميق السياسي والحروب.