"فتاة سيئة" رواية اجتماعية شبابية، كتبتها الأستاذة شهد الغلاوين، ونشرتها دار الفكر العربي للنشر والتوزيع، 2012م، وقد حصلت الرواية على مستوى مبيعات عال، في معرض الرياض للكتاب. الرواية، رواية شبابية بامتياز، فمن لم يكن شابا أو يحمل روحا شبابية عالية، منفتحة على الواقع الشبابي، ومتقبلة لما سيكون عليه مستقبل المجتمع القريب، بكل شجاعة وشفافية، أنصحه بعدم قراءتها.

لن أتناول نص رواية "فتاة سيئة" موضوع مقالي اليوم، من الناحية الفنية الأدبية، لأنه لا يعنيني، كونه رواية قصيرة أم قصة طويلة، ولكن الذي يعنيني، هو قدرة النص على تصوير إيقاع حراكنا الاجتماعي الشبابي المتسارع الذي أدخلنا في أزمة اللهاث خلفه، وبعدسة عين شبابية لاقطة عبقرية، تفننت في فصل الخطوط المتداخلة والمتبادلة للأدوار بين ثابتة ومتحولة؛ ليجعلنا نشاهد تحول الثابت فيه كمتحول وثبات المتحول فيه كثابت، وبلغة افتراضية إبداعية أخذت تفرض نفسها على باقي لغاتنا التقليدية وتزاحمها. الفضاءات الاجتماعية الجيدة هي من تخلق لها أدبياتها الجيدة، وفي نفس الوقت، الجديدة المعبرة عنها، بكل جدة واختلاف وباحترافية توائم معطياتها وبآليات تولدت من مستجداتها.

الرواية موضوع المقال، جسدت وبكل دقة، النقلة الكبيرة التي تدور رحاها الآن وبكل حيوية، خلف كواليسنا الاجتماعية، لتهيئ في حال سنوح الفرصة لها، اعتلاءها خشبة المسرح الاجتماعي كي تكون ضمن النص الأصلي لا هوامشه. مجتمع شاب حيوي، نشط، يمثل غالبية المجتمع الساحقة، لا تعوزه لا الشجاعة ولا الإقدام ولا افتخاره بذاتيته وفردانيته، ينتظر فرصة الاعتراف به أو انتزاع الاعتراف به.

الفتاة السيئة، هي رغد بطلة الرواية، التي تتبعنا مسيرة نمو شخصيتها الشبابية اليافعة جداً، وهي تعبر عن رؤى وطموحات وآمال جيلها، الذي نسمه نحن الكبار بالسوء. جيلها الذي أقر بسوئه لإرضائنا، ولكن بشرط عدم تخليه عنها، حيث لا يرغب بسواها بديلا. تقول رغد "كنت من قبل دائماً ما أردد، أنا الفتاة السيئة... لعلمي المسبق بأن جميع تصرفاتي وتعاملاتي ومواقفي مع الدنيا والناس من حولي لا تعجب أمي، لذا دائماً أردد شعاري في وجه العقوبة أنا فتاة سيئة وعليكِ أن تتحملي سوئي". لكون بطلتنا رغد ترغب بمجاملة أمها وفي نفس الوقت لا تتحمل مجاملة محيطها، والذي وصفته بأنه "... مجتمع يلبس عباءة التقاليد والأعراف...، توجب إقامة الحد على من يخالفه وكأنه اقترف خطيئة لا تغتفر".

ثم تعبر رغد عن سبب مللها من وسطها الاجتماعي الذي ترى أنه لا يعكس رؤاها ولا طموحاتها ولا طاقاتها الشبابية المتزاحمة وبكثافة داخل وجدانها وخيالاتها الملتهبة، بالتالي: "كنت أرد الجميل بصورة قبلة أطبعها على جبين أمي، على عجل كل صباح... دون أدنى إحساس بروحانية العلاقة مع أم. درس حفظته جيداً، كما صلاتي التي غرست في داخلي منذ الصغر. نقشت درساً في ذاكرتي حتى تحولت بعد ذلك إلى عادة، أكثر من كونها عبادة روحانية".

وهنا تخبرنا رغد سبب مللها من عالمها الواقعي، حيث ولجت عالما افتراضيا، وجدت نفسها فيه وكشف لها عن كل طاقاتها المكدسة داخلها، وفرغ لها شحناتها الإيجابية والسلبية، متى وكيف وحيث تشاء، حيث تقول: "وحدها غرفتي ما يخلق لي سقفاً من الحرية، أمارس فيها طقوسي بفوضوية، أعيش مع حقيقتي بسلام وأؤدي أدوارا بطولية. تتضارب برأسي أفكاري ومعتقداتي، أرفض الأسوار وسياسة العيب ومنظومة الأعراف والتقاليد البالية. لا تجد أفكاري دوماً خطا أحمر تقف عنده، بل تتجاوز كل الخطوط، وتتطاول بمقاييس مختلفة مع كل أسوار المجتمع ومعتقداته، لذا حين أنعزل بغرفتي فإني أنسلخ من ضلع أبي وكأنني لم أخرج من ضلعه ولا من توارث عادات مجتمعه"، وهذه من المفارقات الغريبة، غير المحسوبة، حيث الغرفة الموصدة داخل البيت ذي الأسوار العالية والمنيعة، تتحول لهوة واسعة من الحرية، حدودها السماء وتحتضن كل زوايا الأرض وما حولها.

ونرى المفارقة كذلك أوضح في النتائج، حيث مساحة الحرية المتاحة بالغرف الموصدة والأسوار العالية، تكون أسرع وأمضى وأكثر وقعاً على المجتمع، تصيب من شيدوها ومشوا خارجها بحرية موهومة، بحمى النكوص والركض واللهاث خلف قاطني الغرف الموصدة، حيث تعلق رغد: "لم يتطفل على حياتي رجل واحد، على رغم وجودي في مجتمع ذكوري من أقرباء وجيران وحياة تدمجني بواقع الكثير منهم، لم تكن لي رغبة بكل ما حولي، حتى شيطاني لم يدفعني تجاه أحد منهم، وكأن هذه الشاشة الصغيرة عزلتني عن كل مبادئ وجعلتني أتجاهل كل ما أؤمن به وأرميه خلف ظهري. وهكذا شمرت عن ساعدي لولوج ذاك العالم بلا ثوابت".

رغد تتنقل بنا بين عالمها الواقعي وعالمها الافتراضي، ليتداخلا بقدرتها العنيدة وإصرارها النضالي العجيب، ليصبحا عالما واحدا، يتنازعه عالمان متضادان، عالم جليدي وعالم لهيبي، فتكسر من عالم الجليد وتضعه على عالم اللهيب، ليبرده، وتقطع من اللهيب وتضعه على الجليد، ليصبح بارداً لا متجمداً. رغد كشفت أسرار وخبايا العالم الافتراضي وكيف تصول الفتاة وتجول فيه بين الشباب والرجال، بكل حرية وأريحية، تأخذ من هذا وتعطي ذاك وتصطدم بهذا وتصدم ذاك.

كابنة عائلة قبلية، تتم خطبة رغد، لشاب من نسيجها الاجتماعي، وتتم ليلة الخطبة بكل تقليدية مملة وقاهرة بالنسبة لها. فتشكو حالها، بنفس الليلة، على رواد موقعها المفضل على النت، وتنهال عليها النصائح، برفض الخطبة وعدم إكمالها. وتأخذ رغد بنصيحتهم، وتنفر خطيبها، ويطلقها، قبل الزواج. ثم تتعرف على رجل (ليس بعمرها)، مثقف، وتتفق معه على الزواج منه، وتفرضه على أهلها، بطريقتها الافتراضية الجريئة.

وهنا تعلق رغد: "كان خبر خطبتي لسعد، حدثا صادماً، هز أركان القبيلة.... مما دعا أحد عمومتي إلى مقاطعتنا، في حال تم الزواج... وتناقلت النساء خبر زواجي وسط مجتمع حانق... ولم يطرق باب بيتنا أي مباركة، سوى خالاتي فقط".

استطاعت رغد أخيراً فرض عالمها الافتراضي على عالمها الواقعي، حيث قاربت بين مكونات المجتمع، الذي لم تسنح له معطياته الفقيرة فرصة التقارب من عشرات القرون. يوجد في كل بيت رغد، تقبع في غرفة موصدة، تخالط أجناس الشباب، لتقتنص واحدا منهم، ليكون فارس أحلامها، الذي تختاره بعزف أناملها على "كي بوردها"، على نوتة رجفات قلبها. الوصال الوطني، لا الحوار الوطني يخوضه الآن وبكل جدارة الشباب السيئون، لا الرجال ذوو النوايا الطيبة.

النص الأدبي الإبداعي، ذاك الذي يؤدي دور العدسة المكبرة، التي نرى من خلالها واقعنا بوضوح والمنظار المقرب لنا مستقبلنا، حيث يجعلنا نراه وكأننا نهم بلمسه. رواية "فتاة سيئة" من هذا النوع الأدبي الإبداعي، الذي عزفته أنامل طالبة البكالوريوس الشابة، شهد الغلاوين، وبلغة افتراضية، اقتبستها من عالمها الافتراضي، الذي يحسن تركيع الأحرف وترقيصها، لا كتابتها.