الحديث عن حمد القاضي أدْخلُ في الحديث عن النفس، وبعض الكتّاب ليس شرطا أن تصلك رابطة به، فتعرفه كفاحا، حتى تكتب عنه، وربما كانت الكتابة عن مثقف له مقام في نفسك، أو أثر في تكوينك = ضربا من الحديث عن الذات وأدنى رحما بها.
كانت البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون السعوديين من مباهج الحياة عند شاب ثقف شيئا من الأدب، حتى خيل إليه، في ذلك الزمن البعيد، أن سيكون أديبا، وأن سيصل نفسه بالقراءة والكتاب، وكان يجد، فيما اتصل به من كتب، مهما كانت زهيدة قليلة، لذة ومتاعا، وكان يلقى في دروسه في القراءة والأناشيد، والمطالعة، ثم في درس النصوص = عالما فيه الدهش والغرابة، ولا يستطيع، اليوم، أن يعين سببا لهما، وعساه أدرك، بحسه الساذج، أن في تلك المقررات المدرسية ما يغريه بالأدب، وإن لم يحقق معنى لهذه الكلمة، فيما يظن اليوم، لكنه كان يلقى في بعض النصوص الشعرية والنثرية ما يشده إلى ذلك الشيء العجيب المطرب الذي ندعوه «أدبا»، ولا أزال حتى اليوم، أستعيد دروس المدرسة كلما مرت بي قصيدة الأمير عبدالله الفيصل:
مرحى فقد وضح الصواب
وهفـا إلى المجد الشـباب
عجلان ينتهــــب الخطا
هيمان يستدني السحاب
في روحــه أمـــل يضيء
وفي شـبيبــته غـــلاب
أو قصيدة الشاعر حسن عبدالله القرشي في الطائف:
طب العليل وبهجة المصطاف
ورؤى الربيع ونهجه الوصاف
واد أغن سرى النسيم بأرضه
مترقرقــا بندى النمير الصافي
ولست أستطيع أن أدفع عن نفسي صدى تلك الأيام، على سذاجتها وبهائها، ولا يزال لأولئك الأدباء الذين أطلوا من دروس الكتاب المدرسي مقامهم الأثير عندي.
على أن القراءة، على ما فيها من متعة، لم تكن بكافية لأرقى في مدارج الثقافة، كان الأمر شاقا جدا، يحول دون بلوغ ما أبتغيه، دروس المدرسة، وضيق ذات اليد، وعدم الموجه، لولا الإذاعة السعودية والتلفزيون السعودي.. وأنا لا أستطيع، اليوم، إغفال أثرهما في تكويني وتنشئتي الثقافية.. وإلى البرامج الثقافية والأدبية – بل وإلى المسلسلات التاريخية – أعيد قدرا كبيرا من إقبالي على الأدب والثقافة، فلولا مسلسل «العقد الفريد» لرشيد علامة، ما عرفت هذا الكتاب، ولا ابتعته، ولولا برنامج «قصة إسلام صحابي» للمؤرخ المصري الكبير الدكتور حسن حبشي، في إذاعة جدة، ما توثقت صلتي بتاريخ الصدر الأول من الإسلام، وفي البال شيء يشبه الطيف، حين اتفق لي، في زمن ضارب في البعد، أن أشاهد حلقات من برنامج «الكلمة تدق ساعة» لمحمد رضا نصر الله، أما برامج محمد حسين زيدان وعلي الطنطاوي فهي التي وصلت ذلك الفتى بمعاني التراث، وأعلام عصر النهضة.. إنه لا يستطيع أن يفيها حقها مهما أراد.
مرت الابتدائية والمتوسطة.. وفي المرحلة الثانوية قوي ميلي إلى الأدب، وداخلني شعور يدفعني إلى أن أكون أديبا، وكانت قراءات وكتب، وكانت مكابدة ومشقة، وكانت برامج التلفزيون السعودي لا تزال ملاذا للارتواء من الأدب والثقافة والفن.
في تلك المرحلة عرفت برنامج «رحلة الكلمة»، وألفت إطلالته الأسبوعية، وأصبح حمد القاضي ممن لهم سهم كبير في تكويني ونشأتي الثقافية والأدبية، وعلى ذلك البرنامج الثقافي الذي نعده – اليوم – من أزكى تراثنا الثقافي المرئي = نشأ جيل من الأدباء والمثقفين، أما ذلك الشاب فكان أثر حمد القاضي وبرنامجه فيه بعيدا بعيدا!
سأقول لكم لماذا؟
عرفت، في سن مبكرة، كوكبة من الرواد: أحمد قنديل، وأحمد عبدالغفور عطار، ثم أنشأت أطالع في صحيفتي عكاظ والمدينة المنورة أشعارا ومقالات لمحمد حسن فقي، ومحمد حسين زيدان، وعزيز ضياء، وآخرين، فلما عرفت النادي الأدبي في سنتي الأخيرة في المدرسة الثانوية، رأيت كوكبة واسعة من رواد الأدب والثقافة في المملكة، كفاحا، يحاضرون، ويعلقون، وكأنه كان مقدرا لي أن أعرف أولئك النفر الكرام، في عهد مبكر من حياتي، قبل أن أختص، شيئا ما، بأدب ذلك الجيل وثقافته.
جاء حمد القاضي وبرنامجه «رحلة الكلمة» في أوانه.. كانت النفس تتطلع إلى تلك الأسماء الكبيرة في سماء الثقافة في المملكة والعالم العربي.. ومن أين لي، وأنا أشق الطريق، اصطفاء هذه النخبة الأثيرة عندي، لولا ذلك البرنامج الحبيب القريب.. كأنما كان كتابا في الأدب والثقافة، أو كأنه يشبه موسوعة محيطة، أدت إلى ذلك الشاب ما لم يكن ليحلم به، لو أنه اكتفى بمطالعة الكتب وحدها، وكيف له أن يسعى في طلاب ما يراه ويسمعه؟ كان، في تلك السنوات، قد ألف إطلالة حمد القاضي؛ هيئته، وسمته، ونأمة صوته، واعتراه شعور أنه يلقي عليه درسا أسبوعيا في الأدب والتاريخ والثقافة، وعساه أدرك، اليوم، أن برنامج «رحلة الكلمة» كان عميق الأثر في تكوينه، وأن خراج تلك الليالي التي قضاها في مطالعة التلفزيون، لا يزال ثرا وافرا، وليس بعيدا أن ميله إلى الاختصاص برواد الأدب والثقافة في البلاد، كان لبرنامج حمد القاضي يد فيه. ألم يشاهد حمد الجاسر، ومحمد حسين زيدان، وعزيز ضياء، وعبدالله بن خميس، وغازي القصيبي؟ = فيستيقظ، في نفسه، تاريخ، وتنمو، في روحه، شجرة الثقافة، ويتسع، في عقله، مدى المعرفة، ويغور فيه شعور أن بينه وبين حمد القاضي وضيوفه من الأدباء الرواد وشيجة، فإذا عاينهم بأشخاصهم في النادي الأدبي عد ذلك أزكى ما يرجوه من الأدب والثقافة.
2
لم يكن حمد القاضي مقدم برنامج وحسب، إنه أبعد من ذلك. إنه صانع ثقافة مختلف، والأدنى إلى الحق: إنه «محب للمعرفة» دهش بها.. عرف أجيالا من الأدباء، واتصل بجيل الشيوخ منهم، ثم أراد أن يستبين ذخائرهم، ويستخرج مخبآتهم، فكان برنامج «رحلة الكلمة» حصيلة هذا الحب وذلك الدهش، ويخيل إلي أن الأستاذ الجليل ما كان في حاجة إلى أن يعد، ويخطط لحلقات البرنامج! كان يكفيه أن يضيف حمد الجاسر، أو غازي القصيبي، فيبدأ حوار، ويبعث تاريخ، وتنمو في أفئدة المشاهدين – وأنا واحد منهم – شجرة خضراء للمعرفة، وكان برنامجه ذلك الحبيب القريب أزكى ما أنشأه أستاذنا، وما كان ذلك بالشأن الهين اليسير!
وعندي أن الأستاذ الجليل حمد القاضي ما اكتفى بأن يكون مثقفا.. إنه جمع إلى هذه الخصيصة صفة المثقَّف «المثقِّف» – بالبناء للفاعل – ألا يكفي أن أجيالا من الأدباء والمثقفين عرفوا فيه هذه الخلة، وكأنما أدرك، في سنوات قيامه بالبرنامج، أن «الثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء»، وأن بلادنا ليست نفطا.. إنها أبعد غورا من ذلك، وحسبها أن تكون «خزان ذكريات» الثقافة العربية! بالله قولوا لي: كم مرة سمعتم حمد القاضي يردد بيتا رائعا لصديقه ورفيقه غازي القصيبي؟
نفط.. يقول الناس عن وطني!
ما أنصفوا..! وطني هو المجد!
إذن، كانت صفة «المثقِّف» هي أعظم خلال حمد القاضي.. أدركت شيئا من ذلك في برنامج «رحلة الكلمة»، فلما اتصلت أسبابي بـ«المجلة العربية»، يوم كان يحررها، تابع «المثقِّف» مشروعه، وكأنه أخذ على نفسه عهدا: أن يحرر مجلة لا تضيق صفحاتها دون الواعدين والحالمين والمفتونين بالأدب والثقافة، وأن يصل جيلا بجيل، وأن يكون للمجلة من اسمها نصيب، فكانت «عربية» الهوية والمتجه، ورأب «المثقِّف» الفجوة بين الأجيال، فقرأنا في صفحاتها لحمد الجاسر، وأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وغازي القصيبي، وعبدالعزيز الخويطر = وقرأنا، كذلك، لأولئك الواعدين والحالمين والمفتونين!
ألم أقل لكم: إن أظهر صفات حمد القاضي.. هذا المحب الدهش: أنه مثقَّف «مثقِّف»!