والبيانات التالية تؤكد الأصل الهرمسي لتلك العلوم.
يقول ابن النديم عن خالد بن يزيد هذا إنه «أمر جماعة من الفلاسفة اليونانيين -ممن كان ينزل بمصر وقد تفصح بالعربية- بنقل الكتب في اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي»، ثم يضيف قائلا:
«وهذا أول نقل في الإسلام من لغة الى لغة».
فلنسجل إذن أن أول ما نقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من علوم الأوائل، كان من العلوم الهرمسية «السرية» السحرية، ومن المركز الأصلي الهرمسية: الإسكندرية.
ولعل هذا وحده كاف لفهم موقف أهل السنة القدماء إزاء علوم الأوائل.
فلقد كان أول ما عرفه المسلمون من علوم الأوائل هو العلوم الهرمسية التي تحمل في طياتها -فضلا عن ارتباطها بالسحر- عقيدة دينية مخالفة لعقيدة الإسلام.
وإذن فموقف أهل السنة القدماء المعادي لـ«علوم الأوائل» كان في حقيقته وجوهره بسبب العقائد الدينية الهرمسية التي تباطن هذه العلوم وتؤسسها.
أما عن الطريق الذي سلكته هذه العلوم، عبر الترجمة، إلى الثقافة العربية الإسلامية، فيذكر ابن النديم أن شخصا يدعوه تارة باسم «واصطفن القديم»، وتارة باسم «اسطفن الراهب»، قد «نقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب الصنعة وغيرها، وأنه كان يقيم بالموصل وقد عمر طويلا».
ويذكر جابر بن حيان من جهته أن اصطفن الراهب هذا كانت له طريقة خاصة، في «التدبير» (= العمل الكيماوي = تحويل المعادن إلى ذهب) وأنه بلغه عنه «أنه أخذ العلم من مريانس الذي كان خالد بن يزيد قد أنفذ في طلبه، حتى أخذه من طريق بيت المقدس، وأنه لما مات مريانس هذا خلفه اصطفن الراهب».
ويذكر جابر بن حيان أنه اتصل باصطفن الراهب هذا وسأله عن طريقته في التدبير فأجاب بأنها «طريقة هرمس مثلث الحكمة» التي شرحها في كتاب له إلى ابنه طاط.
لنضف أخيرا أن الرازي الطبيب الذي اشتهر هو الآخر بالاشتغال بالكيمياء وألف فيها عدة كتب ورسائل، قد تعلم من جابر، أعني من كتبه، إذ يذكر ابن النديم أنه يقول في مؤلفاته في الصنعة: «قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حیان.
وإذن فالسلسلة متصلة الحلقات من الرازي إلى جابر بن حيان إلى خالد بن يزيد بن معاوية إلى المؤلفات الهرمسية بالإسكندرية عبر اصطفن الراهب ومريانس وأستاذه آدمز الذي يقول عنه أوليري إنه «برز بدراسته لكتب هرمس».
وإذن فلقد كان العقل المستقيل، الذي تحمله الهرمسية هو أول من انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من عناصر الموروث القديم، وذلك عبر الكيمياء والتنجيم.
ورسائل جابر بن حيان تؤكد ذلك تأكيدا. وبما أن المجال لا يتسع هنا لعرض المضمون الهرمسي اللاعقلاني لرسائل جابر بن حيان بتفصيل فإننا سنكتفي بأمثلة ذات دلالة خاصة.
أول هذه الأمثلة يخص النظرة الهرمسية إلى الكون القائمة على ترابط أجزائه. ولعل أحسن وأوجز عبارة تلخص هذه النظرة قول جابر: «إن في الأشياء كلها وجودًا للأشياء كلها» ويربط ذلك بصناعة الكيمياء فيضيف: «ولكن على وجوه من الاستخراج، فإن النار كانت في الحجر ولا تظهر، وهي له بالقوة، فإذا زند وأورى ظهرت».
وهذا يذكرنا بذلك المبدأ المؤسس للكيمياء الهرمسية والذي يقول: «ما من طبيعة إلا وهي معشوقة من طبيعة أخرى، وما من طبيعة إلا وهي مقهورة لطبيعة أخرى».
مبدأ التجاذب والتنافر، الذي يؤسس نظرية وحدة الكون الهرمسية فنجده في رسائل جابر بن حيان باسم «المماثلة والمقابلة».
أما المثال الثاني فيتعلق بنظرية جابر في النفس. إنه عندما يتعرض لتعريف النفس يعترض بشدة على التعريف الأرسطي القائل:
«النفس كمال لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة»، الشيء الذي يعني عدم استقلال النفس عن البدن وبالتالي ارتباطها به ارتباطًا يمنع من تصورها كجوهر مستقل.
إن جابر يعترض على هذا بشدة ويذكر أنه رد على أرسطو في كتاب خاص، ثم يورد التعريف الذي يرتضيه وهو، تعريف هرمسي تمامًا: يقول «فأما الحد لها (= النفس) على رأينا فإنها جوهر إلهي محيي للأجسام التي لابستها، متضع «بملابسته إياها».
وأما المثال الثالث فيخص هذه المرة تصنيف العلوم. يصنف جابر العلوم إلى صنفين: علم الدين وعلم الدنيا، ويصنف علم الدين إلى شرعي وهو علم الظاهر وعلم الباطن وعقلي وهو علم الحروف ويندرج تحته العلم الطبيعي والعلم الروحاني، وعلم المعاني وهو قسمان: العلم الفلسفي والعلم الإلهي والفلسفي يضم العلوم الطبيعية والنجومية والحسابية والهندسية.
أما علم الدنيا فهو قسمان علم الصنعة وهو الكيمياء وفروعها، وعلم الصنائع الأخرى الخادمة لعلم الكيمياء. وواضح أن هذا التصنيف منعي تمامًا، فإضافة إلى أنه يقع بعيدًا عن التصنيف الأرسطي للعلوم فإن المبدأ الذي يحكمه هو دمج الدين في العلم والعلم في الدين. فعلم الدين كما رأينا يضم علم الشرع وعلم الحروف (= السحر) والفلسفة والتنجيم والعلوم الطبيعية والحسابية والهندسية وكل العلوم النظرية المؤسسة للكيمياء. أما علم الدنيا فهو يضم فقط الحرف العملية.
وإلى جانب هذا التصنيف يتحدث جابر عما يسميه بــ«العلوم السباعية»، وهي «العلوم الخفية» السحرية، بعبارات التبجيل والتعظيم التي لا يمكن أن تصدر إلا عن «العقل المستقيل» الهرمسي. يقول جابر ضمن «باب القول على خواص النجوم وأفعالها في البلدان والطعوم وفي الحيوان والنبات والحجر» وبعد ذكر الخصائص السحرية للكواكب السيارة السبع (زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر) يقول: «إن السباعية هي العلوم التي قدمنا الوعد بها... وهذه السباعية هي: (أ) علم الطب وحقيقة ما فيـه (ب) وعلم الصنعة وإخراج ما فيها (ج) وعلم الخواص وما فيها (د) والعلم الأكبر العظيم، الباطل في زماننا هذا أهله والمتكلمون فيه، أعني علم الطلسمات (هـ) والعلم العظيم الكبير الذي ليس في العلوم كلها مثله ولا أعز منه ولا هو مفهوم ولا معقول ولا ألف فيه شيء من الكتب: علم استخدام الكواكب العلوية وما فيه وكيف هو (و) وعلم الطبيعة كله وهو علم الميزان (ز) وعلم الصور وهو علم التكوين وإخراج ما فيه وفعل ذلك على سبيل إخراج ما في القوة إلى الفعل،...
يلي ذلك «باب القول في الطب» ويصنفه جابر إلى نظر وعمل، ويصنف النظر إلى قسمين: النظر في العقل والنظر في الجسم، والعمل كذلك قسمان العمل في النفس والعمل في إلخ..
ثم يعرض للطبائع الأربع وتفاعلاتها وما ينتج عن ذلك على صعيد الكون ككل ثم على صعيد جسم الإنسان ليقرر بعد ذلك المبدأ الهرمسي الذي يشبه الإنسان بعالم صغير.
1984*
* باحث وأكاديمي مغربي «1935 - 2010».