كنتُ مترددًا في الكتابة عن هذه المسألة على الرغم من أنني منذ أكثر من ثلاثة عقود وأنا أقرأ وأبحث فيها، وكنتُ ولا أزال أتتبع كل ما يُكتب أو يؤلف حيالها، بل كنتُ ولا أزال أتتبع كل شروحات علمائنا الأفاضل ومن كل البلاد الإسلامية وبمختلف توجهاتهم العقدية والفقهية في كيفية فهمهم لهذه المسألة وتأويلاتهم وتفسيراتهم لكل ما يتعلق بها، ولا أظن فيما أعلم بين يدي أن هناك مؤلفًا لم أقرأه حولها، أو أن هناك تسجيلًا لعالم أو قولًا نُسب إلى عالم إلا وتتبعته وتلمستُ موارد ذلك القول ومداركه.
وهذه المسألة كُتبت فيها بحوث أكاديمية ومحكمة كثيرة جدًا في مجلات علمية رصينة في جميع جامعات العالم الإسلامي. إلا أن هذه المسألة لا تزال عصية على الفهم وخصوصا لدى كثير ممن ينتسب للدين الإسلامي، وفيها خلط شديد ومعقد يكاد يوهم المتلقي والناظر فيها عند تنزيلها أنها مسالة يقينية والرأي فيها أحادي وليس متعددا، وأن كل ما يتعلق بها ليس فيه إلا فهم واحد فقط وما عداه فهو قول لأعداء الدين، ولمن يُريد أن يجعل الدين الإسلامي علمانيًا، ويُخرج مقاصد الدين عن حقائقه وجوهره. وهذا الاتجاه له آثاره السيئة في الحياة الواقعية وخصوصا لدى العامة من الناس، وبالأخص إذا ما اختلطت هذه المسألة بالمسائل السياسية المعاصرة المتعلقة بالدول العظمى في عالمنا المعاصر.
ومن أحدث تلك الآثار السيئة التي كانت نتيجة للفهم السيئ للمسألة، ما حدث في باكستان مؤخرًا حيث أوردت الصحف خبرًا مفاده (متهم بـ«التجديف».. قرويون باكستانيون يخطفون رجلًا من قسم الشرطة ويقتلونه)، وقد قتل الرجل رجمًا بالحجارة، ولم يورد الخبر التهمة الحقيقية له إلا كلاما عاما أنه قد ارتكب التجديف في الدين وأنه أحرق صفحات من القرآن الكريم. والتجديف في الدين في محصلة أقوال أهل العلم، هو مصطلح يُراد به القول في الدين بما يطعن فيه وفي أركانه وقواعده على اختلاف شديد في تطبيق الوقائع والجزئيات لذلك المصطلح.
فمن الفقهاء من يتوسع في تنزيل مصطلح التجديف في الدين على كل مخالفة يتصورها ويُكيفها على أنها مضادة ومتناقضة مع الأسس والأركان والقواعد الإسلامية، ومنهم من يُضيق في المفهوم والتصور، احتياطا وخروجا من الحكم على الآخرين بالكفر والمروق من الدين.
وتلك المسألة لها ارتباط وثيق بإشكالية مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وما تعلق بها من مسائل عظام لها أثر كبير، وهي مسألة تطبيق الحدود.
فمسألة الحكم بغير ما أنزل الله في حقيقتها تتعلق بمن يملك السلطة والاختصاص في تسيير المجتمع الإسلامي في محيطه، بما يتوافق مع مقاصد الدين الكلية وقواعده الكبرى، ولا تتعلق بعامة الناس وآحادهم، وهذا ما أدركه مؤسسو الدولة السعودية منذ نشأتها، وذلك لأن ترك مثل هذه المسائل العظام للعامة وأحداث الأسنان وأنصاف المثقفين أن يخوضوا فيها، هو مدعاة لإنتاج فكر متطرف يُدمر البلاد والعباد، وما نراه من حولنا من دمار شامل وتحطيم يقيني لدول كانت ثم زالت واضمحلت، إلا خير شاهد ودليل على أن الإخلال بفهم وتصور وتكييف هذه المسألة، لهو مسار لا محيد عنه في طريق الوصول بالبلاد للدمار وفقدان الأمن والأمان والعيش الرغيد.
لذلك فإن إعطاء التصور والتكييف السليم لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله هو البنية الحقيقية لبناء جيل شاب طموح يخلو ذهنه من التصورات الثورية التي تقود إلى التطرف اليساري الإلحادي أو إلى التطرف اليمين الغالي المخرج لأهل الدين والإسلام من دينهم والحكم عليهم بالردة، وعلى الدول بأنها دول كفر أو كما اصطلح عليه الفقهاء بأنها دار كفر، ومن لم يستوعب حقيقة خطورة التحدث في هذه المسألة، فإنه يتعامل معها وكأنها مسألة فقهية عادية، أو كأنه يتعامل مع مسألة في الصلاة أو مسألة في كتاب عقدي، يسرد فيها أقوال المتكلمين، فهو يفتح قناة كبيرة لمن ليس له قدم راسخة في العلم، كي يلوك بفهمه القاصر في هذه المسألة العظيمة، ويؤسس للغوغاء والعامة من أن يتعدوا على اختصاص أصيل من اختصاصات السلطة الحاكمة في المجتمع.
وهذه من إشكاليات التعامل مع هذه المسائل الكبرى. ولكي أوضح ما أريد قوله، فإنه في وقت مضى كان أحد كبار منظري التيار الديني ممن كان يقود ملايين الشبيبة، كان خلال شرحه للعقيدة الطحاوية وعند قوله (فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ويعارضونها بها ويقدمونها على حكم الله ورسوله) فقد أسس هذا المنظر للقول بتكفير من لم يحكم بما أنزل الله مطلقًا، بل إنه خرج عن أصل شرح العقيدة الطحاوية، ثم أخذ يشرح رسالة باسم (تحكيم القوانين) وهي رسالة لا تصلح بأن يتم تقريرها للشبيبة لما فيها من إشكاليات وعموميات مطلقة، والعموم والإطلاق في فهم النصوص أصل في إشكالية الحكم بغير ما أنزل الله، وقرر هذا المنظر قول سيد قطب في الحاكمية في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا المنظر قد تأثر به كثير من الشبيبة، ولا تزال مؤلفاته وتسجيلاته متداولة، وقد أحدث شرح هذا المنظر للمسألة شرخا كبيرا في بينة التفكير لدى الشباب المتدين.
، ولا تزال هذه المسألة فيها ضبابية عند تداولها في الأوساط العلمية، وهي الأساس الأول لكل فكر جهادي وتكفيري، لذا فإن ترك هذه المسألة العظيمة للغوغاء أن تُبدي وتُعيد فيها لهو نذير شؤم على المجتمعات، فهذه المسألة لها صاحب اختصاص أصيل لا يجوز لأحد أن يتعدى على اختصاصاته، وصاحب الاختصاص الأصيل في تقرير ماهية الحكم بغير ما أنزل الله هي السلطة التي تُدير المجتمع، فكما أن القرار الإداري إذا صدر من غير مختص يُعتبر باطلا بل في حكم المنعدم، فإن كل تأويل أو تفسير لمسألة الحكم بغير ما أنزل الله من غير صاحب الاختصاص الأصيل، فهو تأويل وتفسير باطل ومنعدم لا يجوز إحداث له أي أثر.