أصعب أنواع الحب هو الحب من طرف واحد. أن تحب وتتفانى في إثبات هذا الحب، وتصوغ له، وتجند كل طاقاتك من أجل الطرف الآخر الذي يقف متفرجا عليك، متنعما بأسمى آيات الولاء والإخلاص. وقد يجاملك وأنت تتقرب إليه وتهرق طاقاتك اللغوية لتحاوره وتفهمه، وتشرح له ذاتك حتى لا يفهمك "غلط!، ومن أجل أن يظل شامخا متفضلا عليك بما تنتجه قريحته وما تتلقفه أنت بكل انبهار وحب و"تسامح" لتنقله وتترجمه، بينما هو يربت عليك ويبارك لك هذه الخطوة، دون أن يكلف نفسه عناء قراءتك واقتحام عالمك ليفهمك ويكتشف كنوزك المطمورة في غياهب التجاهل والنسيان.

أليس هذا هو حالنا مع الآخر الحبيب؟ أليس هذا هو واقع التقارب الذي طفقنا نتودد له من خلاله بالحوار والترجمة؟.

لماذا لا يبادر هو للتقرب إلينا عمليا؟ وعمليا هنا لا تعني مجاملتنا و"التبغدد علينا" بتقديره لهذه المبادرات ولهذا التقارب الذي ما زلت أنظر إليه على أنه تقارب من طرف واحد، وحب من طرف واحد.

لماذا نحن، ونحن فقط من يبدأ بالحوار، ويدعو للتقارب، ويتفانى ويجهد في التعريف بذاته؟ ولماذا لا يأتون هم إلينا ويتقربون منا، ويتفانون لتصحيح نظرتنا إليهم، ويبددون مخاوفنا منهم؟ لماذا يقع علينا وحدنا، دون سائر الأمم، عبء ومسؤولية هذا التقارب وهذا الحوار؟ ألأننا أصبحنا الحلقة الأضعف في المنظومة الكونية؟.

ولماذا نحن فقط نترجم ما لدينا إلى لغاتهم وما لديهم إلى لغتنا، بينما هم يقفون موقف المتفرج، رغم أنهم الأقدر على الترجمة إلى لغاتهم، وكما فعلت أوروبا العصور الوسطى حين تدفق علماؤها وطلابها إلى الأندلس وتعلموا العربية ودرسوا على يد علمائنا العرب والمسلمين، وترجموا كتبا كثيرة في العلوم والطب والأدب والفلسفة. نعم، نحن "منبهرون" بالثقافة الغربية، وبالحضارة اليابانية، وبالنبوغ الصيني، ولا أنكر بأننا في أمس الحاجة لما تنتجه عقولهم.

ولن يتأتى لنا الاستفادة من منتجهم المعرفي والعلمي والثقافي إلا عن طريق الترجمة. ولكن أليس لدينا ما يستحق الترجمة من قبلهم سوى "ألف ليلة وليلة" وغيرها مما انبهروا به في حقبة زمنية ذهبية، انفلتت من عقال تلك النظرة الدونية الأزلية لكل ما هو عربي؟!.

الإجابة جاءتني وأنا في باريس، وبين أروقة منظمة اليونسكو العريقة، أثناء حفل توزيع جائزة "خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز العالمية" للترجمة، متمثلة في الدكتور الفرنسي أندريه ميكائيل، وفي الصيني تشونغ جيكون، اللذين كرسا حياتهما ومنجزهما العلمي للغة العربية ولترجمة الكثير من الكتب العربية إلى الفرنسية والصينية. كان "أندريه" "وتشونغ" هما الاستثناء وسط الفائزين والمكرمين العرب، وكانا في نظري، وهما يتبختران بـ "لغتهما العربية"، ويتغنيان بحبهما للعربية وخدمتهما للثقافة العربية، أسعد حبيبين! على الأقل لأن حبهما لهذا الآخر لم يكن من طرف واحد.