كنت أقرأ مذكرات الزعيم سعد زغلول عن سنوات الحرب العالمية الأولى وفوجئت عندما وجدت فيها اسم المطربة منيرة المهدية! كان سعد يصف ليلة أمضاها في الأوبرا ومعه عبدالخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا، وقال إنه فهم من حديث الوزيرين أنهما يترددان على فنانة اسمها منيرة المهدية!

وكانت منيرة في تلك الأيام صاحبة كازينو في الأزبكية اسمه «كازينو نزهة النفوس» واشتهرت أغانيها مثل «أسمر ملك روحي» و«عصفوري يامه عصفوري» كما غنت معظم ألحان سيد درويش وداود حسني.

ثم انتقلت من التخت إلى المسرح، فقد عشقها أحد كبار أثرياء مصر واسمه محمود جبر ووضع تحت تصرفها كل ثروته، فألفت فرقة مسرحية مثلت على مسرح بریتانیا روايات مشهورة مثل «كلها يومين» التي لحنها سيد درويش، وأوبريت «الغندورة» التي لحنها داود حسني و«كليوبترا» التي وضع ألحانها سيد درویش وأكملها محمد عبدالوهاب.


وفي أثناء ثورة 1919 أصدر القائد العام البريطاني أمرًا عسكريًّا بسجن كل من يذكر اسم زعيم الثورة سعد زغلول ستة أشهر مع الشغل وجلده عشرين جلدة.. وهنا غنت منيرة المهدية أغنيتها المشهورة «يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح. عليك بنادي في كل نادي. يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح..!» وانتشرت الأغنية، وأصبحت على لسان النساء والرجال والباشوات والفلاحين حتى تحولت إلى أشبه بالنشيد الوطني تحديًّا لأمر قائد جيوش الاحتلال! وأصبحت منيرة المهدية المطربة الأولى في مصر بلا منازع، وفجأة جاءت أم كلثوم إلى القاهرة، وأحست منيرة أن العرش الغنائي يهتز تحتها وسمعت أن الجماهير جنت بغناء أم كلثوم فلم تصدق ما سمعت، وفي إحدى الليالي ارتدت ملاءة لف سوداء، ووضعت على وجهها برقعًا، وارتدت شبشبًا في قدميها حتى تبدو كبنات البلد وأصحبت معها الممثل محمد بهجت وذهبت إلى مسرح رمسيس حيث كانت تغني أم كلثوم، واشترت منيرة تذكرة في أعلى التياترو، وهو أرخص مقعد في المسرح، وجلست منيرة المهدية تسمع أم كلثوم، والجمهور يهلل ويصفق ويستعيد ويترنح، وشهدت سيطرة أم كلثوم العجيبة على المستعمين، وهي تتحكم فيهم بصوتها الخلاب وتجعلهم يرقصون في مقاعدهم، ويترنحون على نغماتها، و يهبون واقفين مصفقين لها هاتفين بحياتها! ولم تحتمل منيرة المهدية أن تحضر أكثر من الوصلة الأولى من غناء أم كلثوم فتركت المسرح غاضبة ساخطة على غباء الجمهور وجحوده وقلة ذوقه، وعادت إلى عوامتها في النيل وهي تكاد تجن سخطًا وغضبًا، وأخذت تفكر كيف تقضي على هذه الفتاة الصغيرة التي جرأت على عرشها، وأصبحت تهدد سلطانها!

وهداها شيطانها إلى حيلة غريبة للقضاء على المنافسة الخطيرة. كانت في ذلك الوقت تصدر مجلة فنية اسمها مجلة «المسرح» وكانت أوسع الصحف انتشارًا في تلك الأيام، وكان صاحبها شاب اسمه الأستاذ محمد عبدالمجيد حلمي الناقد الفني لجريدة كوكب الشرق، وكان ناقدًا عنيفًا لاذعًا، له قلم يشبه الحراب، وكان له أسلوب أقوى من المدفع الرشاش، وكان شابًا صعيديًا بريئًا لم تسبق له غزوات أو مغامرات في عالم العشق والهوى والغرام. وقررت منيرة المهدية أن تقع في غرام الصحفي الشاب، ودعته إلى الغداء في عوامتها، وبعد ساعة واحدة كان يجلس تحت قدميها يبادلها عبارات الشوق، وهي تلقي البترول على قلبه المشتعل فتندلع النيران!

وخرج عبدالمجيد الطيب من عند منيرة وهو مقتنع بأنه حبها الأول والأخير، وأصبحت مجلة المسرح هي مجلة منيرة المهدية سلطانة الطرب في مصر والشرق! وبدأت مجلة المسرح تهاجم أم كلثوم وقالت في 17 يناير سنة ١٩٢٧ «أم كلثوم لها مئات العشاق ولا ادري ماذا يحبون فيها ؟ فهي ليست على شيء من الجمال ولا خفة الروح، ولا سلامة الطبع».

وفي 31 يناير سنة ١٩٢٧ كتبت مجلة المسرح تقول «إن أم كلثوم نجمها قد غرب» .

وفي يوم 17 أكتوبر ۱۹۲۷ كتبت مجلة الناقد تقول!: «كانوا في القدس، وطلبت منيرة إلى عبدالمجيد حلمي على لسان مراد عبدالرحمن خادمها أن يسافر لأن الفرقة لا تريده خوفًا من العدوى.. وأقسم له الممثلون أنهم لا يخشون منه شيئًا. ورأت منيرة ذلك فكلمت قنصل مصر في القدس لكي يأمر عبدالمجيد حلمي، لم يعبأ عبدالمجيد العنيد، وهو المشهور بصلابة رأيه، أرسلت منيرة إليه أن مكتب الصحة يطلبه، وإلا يعمل حجر على فرقة منيرة، يا للفظاعة والبشاعة! ليس هو الطاعون ولا الوباء الأصفر، ولما ذهب عبدالمجيد إلى مكتب الصحة أظهروا دهشتهم لذلك، وقالوا إنهم لم يطلبوه ولا داعي لذلك أبدأ».

وهبت العواصف من كل مكان تقتلع منيرة المهدية من عرشها، البعض لعنها، والبعض هاجمها والصحفيون أهملوا أخبارها، والجمهور قاطعها، ومضت منيرة تقاوم الصحف كلها والمجلات كلها والنقاد كلهم، كل أصدقائها تخلوا عنها، حكموا عليها بغير محاكمة رفضوا أن يسمعوا شهودها، أبوا أن يكون لها حق الدفاع عن نفسها!

كان عبدالمجيد معبودًا بين الشباب فقاطعوا مسرحها، وأطلقوا عليها اسم القاتلة، وذهب بعض الناس إلى الشوارع ينتزع إعلاناتها الملونة أو يعمى عينيها الجميلتين المطلتين من إعلانات الحائط. وانزوت منيرة في عوامتها وأحبت بطلًا للمصارعة اسمه حسن كمال من أسرة طيبة وتزوجته وأصبح سكرتيرًا خاصًا للنحاس باشا، ثم هجرته وطلقته وتزوجت شقيقه الأصغر إبراهيم كمال.

وفي أواخر يونيو سنة 1938 زرت منيرة المهدية في عوامتها بالنيل، وحدثتها عن السطور التي قرأتها في مذكرات سعد زغلول عن علاقتها بالوزراء فقالت: لست أذكر متى وأين كانت المرة الأولى التي التقيت بها بحسين رشدي باشا، ولكني أذكر أنني عرفته وهو رئيس للوزراء، وكان مثقفًا ثقافة فرنسية، وقد قال لي مرة إنه مكث في شبابه سبعة عشر عامًا في باريس، ولكنه مع ذلك كان يحب الغناء العربي، وكثيرًا ما كان يحضر الرواية الواحدة خمس مرات أوستا.. وكثيرًا ما دخل المسرح بين الفصول ليشجعني بكلمة أو يداعبني بنكتة، أو يهمس في أذني أن الممثل الفلاني دمه ثقيل!

وأقمت مرة حفلة خاصة، ودعوت رشدي باشا بين من دعوت، ويظهر أنه أحب سهراتي، أو لعله أعجب بروح المرح والسرور التي تسودها فأصبح يزورني باستمرار، وكان رشدي باشا لا يحضر منفردًا، بل كثيرًا ما كان يصحب ثلاثة أو أربعة من زملائه الوزراء، وأحيانًا كان يحضر ومعه الوزراء جميعهم وكان يضحك و يقول: ـ اديني جايب لك مجلس الوزراء بحاله !

1981*

* كاتب صحفي مصري «1914 - 1997»