ليس من الغرابة في شيء أن نرى في المرأة لغزًا علينا حله. ولكن الغرابة كل الغرابة أن نتكلم عن المرأة كما لو كانت اللغز الوحيد الذي أشكل علينا حله. فكأن شقيقها الرجل كتاب مفتوح لا يعوزنا لفهمه إلا معرفة القراءة البسيطة. وكأن كل ما عداها الكائنات ما بين ناطقة وعجماء، وحية وجامدة، أمور تافهة يكفينا لفهمها أن نتناولها بحاسة من حواسنا الخمس. لعمري إن ذلك منتهى السذاجة.

إن تكن المرأة لغزًا فلأن الرجل لغز. أو يكن الإنسان بشطريه المؤنث والمذكر لغزًا، فلأنه يعيش في عالم كل ما فيه ألغاز. وأي شيء في هذه الأكوان ليس لغزًا للإنسان؟

أهي الأرض بشكلها وحجمها ودورانها الأبدي حول محورها وحول الشمس؟ أم هي نباتات الأرض وحيواناتها ومعادنها على اختلاف أصنافها ؟ أم هو جو الأرض بما فيه من مجار سرية للنور والفكر والشعور ؟


أهو الزمان وأين يبتدىء وينتهي أم هو الفضاء بكل ما فيه من عوالم لا تقع تحت حصر ووصف؟

إنه ليكفيك كلما فكرت في شيء من الأشياء أو حدث؟

من الأحداث أن تسأل نفسك: «لماذا ؟» لتعرف أنك في حضرة لغز من الألغاز. فأنت لا تدري لماذا تكونت الأشياء كما هي لا على غير ما هي.

ولماذا تحدث الأحداث حينما تحدث، لا قبل ذلك بدقيقة ولا بعده بطرفة عين. وإن أنت خدعت نفسك فتوهمت أنك واقف على أسرار جميع والأحداث، فأنت بالعبادة أولى منك بمطالعة هذا المقال. أجل نحن ألغاز في عالم كله ألغاز.

وهذه الألغاز قد تشابكت وتداخلت في شكل يتعذر علينا معه حل«واحد منها إلا أن نحل» ما قبله وما بعده. فكأنها الأبواب الموصدة. أما مفتاحها فواحد. فإن أنت حظيت به فتحت أبواب الكون من أصغرها إلى أكبرها ومن أقربها إلى أبعدها والآن قد تسألني عن ذلك المفتاح أين هو؟ فأجيبك بأنه فيك.

وقديماً قيل «اعرف نفسك» فليس أقرب منك إليك وليس أدعى إلى دهشتك من نفسك. فحري بك أن تبدأ بدرسها وحل «ألغازها، قبل أن تبدأ بدرس غيرك من الكائنات وتهم بحل ألغازها.

فهي ما كانت ألغازاً إلا لأنك لغز فمتى اهتديت إلى حل اللغز الذي هو أنت، اهتديت إلى مفتاح كل» لغز سواه. ومعنى ذلك أنك الكون. وهل في مستطاع الإنسان أن يعرف نفسه؟ ما في ذلك أقل الشك «جميع يوم تعرف نفسك تعرف.

أما يذهلك إذ تتأمل عندي الأكوان من حواليك أن تراك الكائن الأوحد على الأرض، الذي ما انفك» منذ أن وجد يسأل نفسه «من أنا؟» فأنت من بين كل الألغاز التي تصابحك وتماسيك في كل يوم من حياتك

ـ على الأرض وفوق الأرض

– أنت وحدك تفتش عن مفتاح المعرفة. أما الأشجار في غابها، والأسماك في بحارها، والطير في أجوائها، والزحافات والدبابات في أجحارها، فما تهم بذلك المفتاح ولا تفتش عنه. بل إنها لا تشعر بأن هنالك أبوابًا موصدة لا تهنأ لها حياة إلا بفتحها.

أما أنت فتشعر، وإذ تشعر تفكر، وإذ تفكر تراك مدفوعًا إلى السعي والتفتيش. ولن يهدأ لك بال أو تستقر لك حال حتى تهتدي إلى المفتاح الذي تفتش عنه أترانا إذ نفتش عن المعرفة إنما نفتش عن عنقاء مغرب؟

ذاك ما يقول به الذين أجهدهم التفتيش، ولا صبر لهم على الثبات حتى النهاية. أولئك هم القانطون والمتشائمون والمستهترون والساخرون بكل من دأبه التفتيش وإيمانه بالفوز لا حد له.

أما أنا فلست، والحمد لله، من القانطين ولا المتشائمين ولا المستهترين ولا الساخرين. وعندي الخفي الذي يدفعنا إلى التفتيش، هو الكفيل بوجود ما نفتش عنه وبالقدرة الكامنة فينا على الوصول إليه.

وما هو الإنسان؟ أيجوز أن ندعو الرجل إنسانًا، وهو لولا المرأة لما كان رجلًا؟ أو أن ندعو المرأة إنسانًا، وهي لولا الرجل لما كانت امرأة؟

إنما المرأة نصف إنسان.وإنما الرجل نصف إنسان أما الإنسان الكامل فلا يكون إلا بالاثنين متحدين. وإذن كان من العبث أن نتكلم عن لغز هو المرأة من غير أن نتكلم في الوقت عينه عن لغز هو الرجل.

وكان من الجهل المطبق أن نحاول حل اللغز الذي هو الإنسان بحل«نصفه الواحد دون الآخر، إن في انشطار الإنسان وما دونه من الكائنات الحية إلى شطرين، أحدهما ذكر والآخر أنثى، لحكمة تفوق حد التصور.

فالكائن الفرد من نوعه لا نصيب له من الحياة إلا الجمود. فلا وعي، ولا سعي، ولا شهوة، ولا هدف، ولا إرادة. ولا أمل له بالمعرفة، إذ ليس في الكائنات ما يشبهه فيكون له محكًا وحافزًا، ويكون له مرآة يبصر فيها نفسه فيتأملها ويدرسها.

وهو إذ ذاك أشبه ما يكون بسلك مشحون بالكهرباء السلبية أو الإيجابية. فلا هو نور ولا هو ظلام، ولا هو حرارة ولا هو برودة.

1965*

* أديب لبناني «1889 - 1988».