لا يمكن للاقتصاد واقتصاد الطاقة تحديدًا أن ينفكّ من المؤثرات الجيوسياسية المتغيّرة، ولا أدلّ مما يحدث الآن في أوروبا. كنت قد وعدتكم الأسبوع الماضي بالحديث عن الاقتصادات الدائرية والفرصة المواتية في السعودية أكثر من غيرها لقيادة العالم فيها. قد يظن بعض القرّاء غير المتفائلين أنني وبحكم طبيعتي البشرية المتفائلة أبالغ في تقدير هذه الميزة التنافسية لدى السعوديين دون غيرهم. في الحقيقة، الواقع هو الذي يفرض معطياته وليس أنا.

قبل أن أحدثكم عن تلك المميزات الطبيعية والزمانية، يجب أن تشاهدوا بأعينكم الآن تلك العسكرة التي تتم في أوروبا وشحذ القوات الروسية وقوات حلف الناتو؛ وهو دليل واقعي على أن عواطف القومية والروح الشعبية لا تزال تسيطر على أوروبا من شرقها إلى غربها بحيث لم تنجح كل الاتفاقيات السابقة بدءًا من فرساي إلى إعلان بوتسدام وميثاق الأمم المتحدة ولا حتى اتفاق الناتو في خفض تلك التصدّعات الأوروبية-الأوروبية على مدى ثلاثة أجيال وصولاً إلى اليوم.

ربما ظننا نحن شعوب العالم الثالث أن ديمقراطيات الغرب أصبحت نموذجًا للحياة والرخاء والتحضّر بفضل تمكين النخب من خلال صناديق الاقتراع. لكنّها تنهار أمامنا اليوم حيث إن ما يسمى (خيار الشعب) يقود الشعب للمواجهات المسلّحة والتوسّع استنادًا لقناعات قومية وإرث تاريخي وحقوق مزعومة.


إن هذه المشكلات الجيوسياسية والأمنية ستخلط كل أوراق صنّاع الطاقة في العالم، وستجعل أوروبا في تحدٍ كبير أمام أمان الطاقة. ومما لا شك فيه أن أوروبا القوية والمتقدمة سوف تسّرع كما سرّعت خلال الحرب العالمية الثانية وتيرة الاختراعات والابتكارات، ولكن هذه المرة في سبيل الطاقة المتجددة. حيث إن الغاز والنفط الروسي سيعني وجوب تقديم التنازلات بصورة أو بأخرى، وما هو الضامن في المقابل لبقاء أوروبا مستقرة؟!

على الجانب الآخر، يعود الهدوء تدريجيًا للشرق الأوسط بفضل جهود دبلوماسية حثيثة تقودها السعودية والدول الصديقة والحليفة في قوات التحالف العربي في اليمن، وأيضًا في العراق وليبيا وإلى حدٍ ما سورية.

باعتبار هذه التغيرات، وباستذكار حديث ولي العهد السعودي عن حلمه بأن يكون الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، نجد أنفسنا بالفعل أمام طريق سريع وفسيح للوصول لهذا الحلم. في رأيي ليس التحدي في تحويل اعتمادنا إلى الطاقة المتجددة، فهذا قد بدأ بالفعل، وإنما في جعل الاقتصادات الدائرية ثقافة وطنية في مصانعنا ومعاملنا وحتى دوائرنا الحكومية.

إن أهم الميزات الطبيعية التي تتميز بها السعودية، هي بلا شك مكانها الجغرافي وسط العالم القديم بين أوروبا وأفريقا وآسيا. إضافة إلى الكمية الضخمة من الموارد المعدنية والنفطية التي حبانا الله بها. كما أن السعودية من أكثر الدول في معدلات الإشراق الشمسي وتوجد لديها مناطق هوائية ممتازة لتوليد طاقة الرياح، وأيضًا الخزن الطبيعي للمياه الجوفية والغاز غير المصاحب. أما الميزات الزمانية، فإن أوروبا أصبحت تعاني من تحديات في مجال الطاقة إضافة إلى القيود الأمريكية على صناعة النفط الصخري وبداية تلاشي مكوناته، كما أن الصين والهند في طورهما المتجدد للنمو والاستهلاك العالي للطاقة.

هنا في السعودية، تعتبر صناعة النفط والتكرير وصناعة الكيميائيات والمعادن إضافة إلى إنتاج الكهرباء وتحلية المياه هي الصناعات الكبرى والتي تمزج بين مصادر الطاقة. كل هذه الجهات تخضع الآن إلى أنظمة وخطط استدامة صارمة من قبل الدولة. لكن التوجه الحكومي نحو تعظيم حجم الاقتصاد والذي جاء آخرها بنقل 80 مليار دولار من أسهم أرامكو إلى صندوق الاستثمارات العامة سوف يشكّل بطبيعة الحال تحديًا وطنيًا على كافة الأصعدة بخصوص التحول إلى الاقتصاد الدائري، حيث إن حجم الأعمال والاقتصاد سيتضاعف عما نراه اليوم إلى ما يصل إلى 2000 مليار دولار كإجمالي ناتج محلي في 2030، فهل نحن بالفعل نخطو خطواتنا بنسق يوازي هذا التغيّر العالمي؟.

معنى أن تتحول الصناعات إلى الاقتصاد الدائري هو أن يكون رجيع الكربون مساويًا للصفر، بحيث يتم تحويل كل الكربون إلى منتجات مفيدة أو حبسه وتخزينه بطرق تمنع تلويثه للمناخ. لقد نجحت سابك وأرامكو في أخذ خطوات متقدمة مقارنة بالشركات العالمية المنافسة. ولا عجب في ذلك فأنا أتكلم عن شركتين في صدارة العالم تقنيًا وفنيًا. ولكن ماذا عن تلك الشركات الصناعية والإنتاجية الوطنية أو تلك التي تعمل في السعودية؟!

إن استغلال فرصة تباطؤ العالم بأخذه خارطة الحياد الكربوني على محمل الجد وهو مشغول الآن بمشاكل أوروبا وروسيا، سوف يساعد السعودية على أن تتبوأ مكانة الصدارة لعقود في مجال الطاقة عندما نتحول إلى الطاقة النظيفة ويكون السعر العادل للنفط هو ما تفرضه تطبيقات الواقع والذي يكون للسعوديين فيه كل الخيارات.

على كل الصناعيين وأصحاب المؤسسات الإنتاجية ومزارع الألبان وشركات الأغذية والدواجن استيعاب أن عدم تبنّيهم للاقتصاد الدائري سوف يضيّع على السعودية فرصة وطنية مواتية يمكن أن تخفض قيمة ضرائب الكربون على الشركات الوطنية في حال تم فرضها وتعطي الوطن ككل ميزة تنافسية للتقدّم.

الحقيقة أننا نسير على اتجاه صحيح، لكننا لا نزال بإمكاننا تسريع الخطوات بعيدًا إلى الأمام عن كل الدول.